باجتيازها التحديات الكبري التي واجهتها، وقادتها لتغيير البنية السياسية والاجتماعية للبلاد، ومكنتها من الخروج من قبضة القوى الاستعمارية، ومهدت لها الطريق لبناء الاستقلال الوطني والاقتصادي، بالتأميم والتمصير والتحديث، والسعي لإرساء خطوات للتقدم الاجتماعي، والتبشير بوحدة المصالح العربية، ظلت العلاقة بين ثورة 23 يوليو، التي نحتفل الشهر الجاري بعيدها الواحد والسبعين، وبين المثقفين شائكة وملتبسة وتتراوح بين الهدوء والصدام، وقد ينطبق عليها المثل الشعبي المصري القائل: «لا بحبك ولا بأقدر على بعدك».
كان معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة، المكون من خمسة عشر ضابطاً، جنوداً محترفين وشجعاناً، لا اهتمام لهم بالثقافة. كان المثقفون بينهم قلة مثل خالد محيي الدين ويوسف صديق، وكان جمال عبدالناصر أكثرهم ثقافة؛ كان قارئاً نهماً، مطلعاً على كل ما تصدره المطابع، وشغوفاً بتطوير معارفه السياسية والاقتصادية والأدبية والحربية. وفي شبابه استهواه الأدب، وذكر بنفسه في أكثر من مناسبة أن رواية «عودة الروح» التي كتبها توفيق الحكيم عام 1933 قد أثرت في تكوينه الوطني. وفي «عودة الروح»، بشر الحكيم بظهور بطل قوي، يخرج من أبناء الشعب المصري، ويضع حداً للصراع بين الإخوة على حب المرأة التي كانت ترمز إلى الوطن، لتأخذ مصر مكاناً تستحقه تحت أشعة الشمس. ومن فرط إعجابه بالرواية استلهم ناصر اسم بطلها، ليكون «محسن» هو اسم بطل القصة غير المكتملة التي كتبها في مطلع شبابه باسم «في سبيل الحرية» وأكملها بعد ذلك الكاتب الصحافي عبد الرحمن فهمى عام 1958. لذلك قال توفيق الحكيم إن عبد الناصر كان أقرب إلى طبيعة الفنان الحالم العاطفي، وإن الظروف هي التي دفعته إلى طريق غير طريقه، وأنه لو تُرك لطبيعته، لكان كاتباً ناجحاً.
وربما لعب هذا التكوين الشخصي دوراً أساسياً في رؤية عبد الناصر لمشروع يوليو الثقافي والإعلامي الذي استهدف بالأساس التوجه للجماهير. ولم يكن صدفة أن تصدر الثورة بعد ثلاثة أسابيع فقط من انتصارها مجلة «التحرير» الناطقة باسم الضباط الأحرار، وأن تنشئ بعد عام واحد صحيفة الجمهورية لتنطق باسمها.
وبينما كان التوسع قد بدأ في إنشاء المعاهد الفنية للمسرح والسينما والموسيقى والباليه، وفرق الفنون الشعبية والفرق المسرحية والنهضة الواسعة في النشر وفي الفنون التشكيلية والسينمائية التي ترعاها مؤسسات الدولة الرسمية، والتوسع في البعثات التعليمية للخارج، ظلت علاقة نظام يوليو بالمثقفين مليئة بالتوجس والشكوك لأسباب مختلفة، كان من أهمها الصراع الذي حسم متأخراً بين المحافظين وبين جمال عبد الناصر داخل مجلس قيادة الثورة، وكان أغلبهم أعضاء سابقين في جماعة الإخوان.
وكان صدام يوليو الأول مع المثقفين عقب أزمة مارس 1954 التي شكلت صراعاً على السلطة بين جناحين غير متجانسين في مجلس قيادة الثورة، حين أقدمت على فصل أساتذة الجامعات من عملهم، بعدما أعلنوا تضامنهم مع الفريق المطالب بالديمقراطية في تلك الأزمة، مع أن أحد أسباب قيام الثورة، أن الديمقراطية في النظام الملكي كانت قد تحولت إلى شكل بلا مضمون وغدت حرية العمل السياسي محض صراع على النفوذ الذي بات يشكل خطراً على مصالح بلد محتل. وفي الفترة من 1959 وحتى 1964 وضعت الثورة قادة اليسار المصري من سياسيين وأدباء وفنانين وشعراء ومفكرين في السجون، ثم عادت واستعانت بعدد من مثقفيهم في إدارة مؤسساتها الثقافية والفنية والصحافية والاقتصادية.
وربما يتحمل الطرفان، المثقفون وقادة الثورة، المسؤولية المشتركة عن هذا الصدام. فالطرف الأول لم يكن يتوقف أمام الأوضاع القلقة التي أحاطت بثورة لم تثبت بعد أركانها، وكان يحاسبها بمعايير تخرجها من سياقها الدولي والإقليمي، ويصفها بالدكتاتورية العسكرية ويطالبها منذ اليوم الأول لسلطتها، بحق الطبقات الشعبية في حريات الفكر والرأي والتعبير وإعادة المكتسبات الديمقراطية التي أطاحتها.
أما الثورة، فقد طبقت المنهج التجريبي في السياسات الثقافية، وأبقت على جهاز الدولة القديم لإدارة مؤسساتها. وفي الوقت الذي أعلنت فيه التوجه نحو الاشتراكية بعد إقرار الميثاق الوطني عام 1961، تركت المؤسسات الثقافية حلبة للصراع بين التيار المحافظ المعادي لها والتيار التقدمي ووقفت قيادة الثورة بين الطرفين موقف المحايد، مثل ذلك الذي يحكم مباراة لكرة القدم. وسمحت الثورة بحريات واسعة لنقدها في الأعمال المسرحية والأدبية والسينمائية والشعرية، لكنها لم تكن تتسامح مع المثقفين حين يسعون للتأثير داخل منظمات سياسية أو أنشطة ثقافية مستقلة خارج المؤسسات الرسمية للدولة. وقد كان هؤلاء هم أنفسهم من تصدوا للدفاع عن منجزات ثورة يوليو، حين غاب عبد الناصر، وبدأت سنوات العبث بتلك المنجزات.