كلما أوغل الإنسان في العمر تراجعت عنده جوانب كانت في أوج اتقادها إبّان المراحل الأولى من عمره. وحدها الذاكرة الموغلة في الزمن الأول غالباً ما تزداد اتقاداً لتشده إلى الوراء بينما كل شئ يدفع به إلى الأمام بلا رحمة، بسرعة صاروخ عابر للمسافات الضوئية وهو منطلق إلى محطته الأخيرة.

ولكن ما الذي يحدث عندما نواجه ذاكرتنا بواقع مناقض لها؟ هل نرفض الذاكرة أم نرفض الواقع؟ هذه جدلية تمسّ وتراً حساساً من المشاعر التي تشفّ كلما أوغلنا في سنين العمر، لكنها جدلية مرهقة إلى حد عدم الرغبة في الذهاب إليها لأنها تكبدنا خسائر لا قبل لنا بها في هذه المرحلة من العمر، فلماذا ننبش في الذاكرة ونحن غير قادرين على تحمل تبعات هذا النبش وآثاره؟

ذات مرة سأل خالد بن طوبال صديقه روجيه نقاش: «لماذا لم تعد ولو مرة واحدة لزيارة قسنطينة؟ أنا لا أفهم خوفك، إن الناس ما زالوا يعرفون أهلك في ذلك الحي ويذكرونهم بالخير..». وقتها قال له روجيه نقاش: «ما يخيفني ليس ألّا يعرفني الناس هناك، بل ألّا أعرف أنا تلك المدينة.. وتلك الأزقة.. وذلك البيت الذي لم يعد بيتي منذ عشرات السنين..». ثم أضاف: «دعني أتوهم أن تلك الشجرة ما زالت هناك.. وأنها تعطي تيناً كل سنة، وأن ذلك الشباك ما زال يطل على ناس كنت أحبهم.. وذلك الزقاق الضيق ما زال يؤدي إلى أماكن كنت أعرفها.. أتدري.. إن أصعب شئ على الإطلاق هو مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها..». كان في عيني روجيه يومها لمعة دموع مكابرة، فأضاف بشئ من المزاح: «لو حدث وغيرت رأيي، سأعود إلى تلك المدينة معك، أخاف أن أواجه ذاكرتي وحدي..».

كان خالد بن طوبال هو بطل رائعة الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي «ذاكرة الجسد». وكان روجيه نقاش هو صديق طفولته وغربته الذي كان مولعاً بقسنطينة، والذي لم يعد إليها منذ أن غادرها عام 1959 مع أهله، وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرة واحدة، أو يأتيه أحد على الأقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذة غرفته، والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال.

هل كان روجيه نقاش يعبّر عنا جميعاً عندما قال إن مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها هو أصعب شئ على الإطلاق فعلاً؟ وهل كان لهذا يخاف أن يواجه ذاكرته وحده، حتى لو قالها بشئ من المزاح؟

يحدث أن يغمرنا هذا الشعور عندما نذهب لزيارة الأماكن التي وُلِدنا فيها وعشنا طفولتنا الأولى بين معالمها، وتفتحت عيوننا على تفاصيل مشاهدها، حتى لو كانت هذه المشاهد محدودة وبسيطة، وحتى لو كانت هذه التفاصيل قليلة، في زمن كان يتسم بقلة التفاصيل وسيادة البساطة.

نحن نخاف أن نواجه ذاكرتنا وحدنا، خاصة عندما نشعر أن هناك واقعاً مناقضاً لتلك الذاكرة يمكن أن يهزمنا. صحيح أن الأماكن الأولى تستثير فينا ذكريات حميمة مفعمة بالمشاعر والحنين، لكنها تبعث في نفوسنا شجناً طاغياً، لأن وجوه أناس نحبهم تكون غائبة عن الواقع، ولأن صوراً جميلة أحببناها تكون قد اختفت من المشهد، فيصدمنا الواقع بوجوده ووجوهه وصورة المكان الذي جئنا نبحث عن ذاكرة تشكلت في أركانه الأربعة ذات يوم بدا بعيداً، وهي تتسرب منا اليوم بفعل هذا الواقع المناقض لما اختزنته تلك الذاكرة من وجوه وصور وأحداث، فليس ما يخيفنا هو ألّا يعرفنا الناس في تلك الأماكن.. ما يخيفنا هو ألّا نعرف نحن الناس الذين يمشون اليوم في أزقتها، ويسكنون البيوت التي كانت ذات يوم بيوتنا، ويعبثون بمكونات ذاكرتنا التي تختزن أجمل سنوات العمر وأنقاها وأطهرها.

المهم في هذه الحالات إنقاذ الذاكرة. توصل خالد بن طوبال إلى هذه النتيجة بعد أن تذكر كلام صديقه روجيه نقاش، يجب علينا أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها الأول وصورتها الأولى ولا نبحث لها عن مواجهة اصطدامية مع الواقع، يتحطم بعدها كل شئ داخلنا كواجهة زجاجية. اقتنع خالد بن طوبال بهذا المنطق.

هل حدث أن قادتك قدماك يوماً إلى البيت الذي وُلدت فيه وترعرعت بين جدرانه ولعبت في أزقة حارته، وكبرت مشمولاً بحب ساكنيه والأهل والجيران؟

ما الذي تشعر به بعد كل هذه السنوات التي مرقت كالسهم المنطلق مخترقاً جدران العمر التي غدت مثل ثوب كثير الثقوب لكثرة ما عصفت به رياح الزمن؟

ما الذي تشعر به عندما ترى الأحجار تتطاير من فوق رقعة الشطرنج، وأنك غدوت بيدقاً يصارع من أجل البقاء؟

هنا تصبح مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها أصعب شئ على الإطلاق.