واحدة من النعم الكبرى، التي ننعم بها هي أن حياتنا لا تسير على وتيرة واحدة، ليكون التغيير حقيقة ثابتة أصيلة، نعيشها على اختلاف الفصول، وتعاقب الأيام، وتوالي الليل والنهار، فيعود الصبا ذكريات، ويصبح الحاضر ماضياً، بحلوه ومره، يتقادم، وربما يتلاشى مع مرور السنوات، وتزاحم الأحداث والمواقف.
ويظل السفر واحدة من محطاتنا، التي تقاوم تفاصيلها موجات النسيان، وتجربة ليست كسائر التجارب، التي نمر بها على مدار العام، أو حتى الأعوام التي سبقته، بل إن بعض الكتاب اختزل تجارب العمر في رحلات، حوتها متون مؤلفاته، حتى صارت للرحلات جنساً أدبياً بديعاً متفرداً، وذا خصائص، تميزه عن أجناس الأدب الأخرى.
ولعل الكثير من القراء يشاركونني بأن هناك تفاصيل ومواقف إنسانية، وحكايات ومشاهد عجيبة، صادفتهم، وتفاعلوا معها، وتأثروا بها، تستحق أن تروى، ويتم الاحتفاظ بها في مكان أمين من الذاكرة.
وسواء كان الوطن هو وجهة المسافر، أو بلد يستكشفه للمرة الأولى، أو مكان اعتاد أن يقصده للسياحة والاستجمام والترفيه، سيظل للسفر فوائد جمة، ربما تتجاوز العدد، الذي قيدتها به المقولة الدارجة «للسفر سبع فوائد».
عين المسافر ترى ما لا يراه المقيم والساكن، الذي سكن المكان، وتعايش فيه ومعه، فاعتاده وألفه، فمن جاور القمر لن يدهشه نور البدر الساطع، وربما هدت وألهمت ضياء هلال وليد من التبست عليه دروب المسير في ليلة ظلماء.
ومع روائع الطبيعة، بحورها وجبالها وغاباتها، وطقسها الساحر، وألق المدن، وبكارة القرى، يظل الإنسان هو البطل الأسطوري لأهم حكايات السفر، التي تخلدها الذاكرة، وتغدو أروع الأماكن وأميزها قفراً يباب إذا ما غاب.
يضعنا السفر أمام أبطال محتملين لأدوار بطولة حكاياتنا، لكن الأقدار والمواقف تحدد من ستطول صحبته لنا، ويكمل معنا الرحلة بحكاياتنا عنه، بعد العودة من السفر، بل ربما تحوله الأقدار، لتخرجه من إطار الحكاية، إلى الواقع.
لا تتشابه تجارب السفر، فيما يتعلق بالمواقف والتفاصيل والحكايات التي تخلفها، حتى وإن تكررت الوجهة نفسها، للمسافرين أنفسهم، ولا يمكن التنبؤ بتوقيت وموقع صناعتها، وسمات أبطالها، وجميع من يحيط بسفرك قد تقوده الأحداث لأن يصبح بطلاً لحكاية ملهمة.
وفي رحلتي الأخيرة لمدينتي المكتظة بالسكان، القاهرة، صادفت واحداً من هؤلاء الأبطال، مديراً بمؤسسة حكومية كبرى، دفعه حرصه على إتمام معاملة، وعدم تعطل إنجازها، بسبب عدم استيفاء بعض المستندات، لمراجعة منزل العميل بنفسه، قرب العاشرة مساء، وذلك لغرض إنساني بحت، رغم أن الدوام الرسمي ينتهي قبل الخامسة، بعد أن علم أن ذلك العميل الذي لم يكن سوى كاتب هذه السطور، سيكون على سفر بعد ساعات.
في كل رحلة وفي كل البلدان، التي نقصدها ستظل الحكايات، التي تتيح لنا الأقدار صناعتها، بطلها ذلك الإنسان، الذي تكسبه رواياتنا أحياناً الطابع الأسطوري، لكنه بكل تأكيد جدير، من خلال الأحداث والمواقف، التي قام بها، لأن تصحبنا ذكراه بعد العودة من السفر.