تنبني الحضارات على أسس متينة من القيم والمبادئ، التي تهدف إلى تعزيز السلام والاستقرار وتماسك النسيج المجتمعي، وحفظ الحريات وصيانة الحقوق والتعايش المشترك، وبناء النهضة والتنمية الاقتصادية، وتوفير الحياة الكريمة للناس، وغير ذلك من المقاصد والأهداف التي تصبو إليها الدول والمجتمعات، والتي تجعل من هذا المجتمع أو ذاك مجتمعاً متميزاً يمد البشرية بشعاع ساطع من قيم الرقي والازدهار المادي والروحي، ويعطي رؤية ملهمة لأجيال الحاضر والمستقبل في أن تحذو حذوه في إرساء دعائم الحضارة المستنيرة.
ومن هذه القيم التي تتأسس عليها الحضارات التعايش المشترك بين مختلف فئات المجتمع، والذي يقوم على حفظ الكرامة الإنسانية، والاحترام المتبادل، وصيانة حقوق الجميع، وأساس ذلك معاملة الناس بالأخلاق الحميدة، بكل ما يعنيه ذلك من منظومة أخلاقية متكاملة، من كلمة طيبة وفعل حسن ورد جميل وبر وإحسان وتسامح وعفو وصدق وأمانة وعادات وتقاليد أصيلة، بما يعكس ما يتحلى به هذا المجتمع من ثقافة أخلاقية راقية في التعامل بين أبنائه، وفي تعاملهم مع المقيمين والزائرين لوطنهم، وفي تعاملهم مع أبناء المجتمعات الأخرى في سفرهم وترحالهم، حتى تكون هذه المنظومة الأخلاقية بصمة راسخة لهم، تدل عليهم أينما وجدوا.
ومن ثمرات هذه المنظومة الأخلاقية المتكاملة تعزيز التكافل والتعاون والتكاتف في المجتمع، بما يجعله مجتمعاً متراحماً متعاطفاً، يعضد بعضه بعضاً في السراء والضراء، فيعين الغني الفقير، والقوي الضعيف، ويتعاون الجميع فيما فيه صلاح مجتمعهم ووطنهم.
ومن القيم الأساسية لبناء الحضارات تحلي جميع الأفراد بالمواطنة الصالحة، والتمسك بالهوية الوطنية الراسخة، التي تجذر روح الانتماء والولاء للوطن وقيادته، والتمسك بثوابته الأصيلة، دون ذوبان أو توهان في بحور الثقافات الدخيلة والهويات البعيدة، ما يجعل المجتمع متوحداً في نسيجه، متلاحماً في بنيانه، متماسكاً في كل الظروف التي تلم به، يمتلك القدرة الذاتية على مواجهة التحديات والأزمات بروح واحدة، وصف واحد، يجتمع فيه الجميع تحت رؤية وراية القيادة الحكيمة، وما أحوج المجتمعات إلى مثل هذا التلاحم والتراحم والتفاهم بين القيادات والشعوب، وبين فئات الشعوب بعضها مع بعض، فتنطفئ نيران الخلافات والصدامات والصراعات، ويغلب الجميع مصالحهم العليا، يصونون دماءهم وأرواحهم، ويمضون في سفينة واحدة في تحقيق رقيهم وازدهارهم، ولا تميل بهم الفتن ذات اليمين وذات الشمال، فتهوي بهم الأمواج في أعماق البحور المظلمة السحيقة.
ومن القيم الراسخة في بناء الحضارات على مدى الأزمان والعصور تحقيق العدالة وسيادة القانون وتنفيذه واحترامه، فلا يخشى أحد أن يهضم حقه، أو أن يظلم أو يعتدى عليه، ويبيت مطمئناً قرير العين، لأنه مقتنع تمام الاقتناع أن ثمة قانوناً يردع الظالم، ويرجع الحق إلى المظلوم، وأنه ليس هناك محاباة أو مجاراة أو محسوبية في منظومة القضاء، بل الكل سواسية أمام القانون، وأنه لا صوت يعلو فوق صوت العدل للجميع، كما قال رب العزة سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، فالعدل قيمة مطلقة، وحق أصيل لكل إنسان كائناً من كان.
ومن القيم التي لا غنى للحضارات عنها الأخذ بأسباب القوة المادية والبناء والنهضة والتنمية الاقتصادية، ومن أهم مقاصد ذلك القضاء على الفقر ومكافحة الجوع، وتوفير الحياة الهانئة الكريمة للناس، وتسخير الموارد المتاحة بالشكل الأمثل، ليستفيد منه الخلق، ومن ذلك كذلك العناية بمنظومة التعليم، وحسن تربية الأجيال في أروقة المدارس والمعاهد والكليات والجامعات، فينشأون على حب التعليم، والاستزادة من المعارف، وتنمية المهارات، بما يجعلهم أجيالاً مبدعة قادرة على خدمة وطنها ومجتمعها، وتلبية نداء الواجب في أي ميدان أو مجال، متحلين بالنهج الوسطي المعتدل، فكراً وسلوكاً، فلا يخطفهم فكر دخيل، ولا يؤثر عليهم توجه شاذ، ولا تشوش عليهم شبهات تستهدف دينهم ووطنهم ومجتمعهم، وهم في ذلك كله متسلحون بإيمانهم بربهم تعالى، والتزام صراطه المستقيم، عقيدة وعبادة ومعاملة وسلوكاً وفكراً ونهجاً مستداماً، فيكونون قدوة لأجيال المستقبل، يصنعون مجد أوطانهم، ويخلدون سيراً عاطرة زاخرة بالمبادئ والقيم يورثونها لمن بعدهم.
إن القيم المنيرة والمبادئ القويمة هي أساس نهضة الحضارات، وعنوانها الأبرز، لتكون منارة ساطعة تضيء الطريق لأجيال الحاضر والمستقبل.