تقوم الدول في حرصها على ممارسة سياسة ناجعة، بتأسيس مراكز دراسات استراتيجية تزودها بما تحتاجه من معرفة واحتمالات حول الوقائع السياسية، أو حول الأزمات التي تواجه العصر.
كما يقوم بعض الأفراد بإنشاء مثل هذه المراكز بدافع الربح، حيث يقدمون سلعة لمن يحتاجها.
ولهذا فإن الأهداف مختلفة بين المراكز التي تؤسسها الدولة بدافع المصلحة الوطنية، والمراكز التي يؤسسها الأفراد بدافع الربح، فالأولى تهتدي بالمصلحة الوطنية العليا، فيما الثانية تختلط فيها المعرفة بالمصلحة الذاتية.
السؤال الأهم هو: متى تكون مراكز الأبحاث ذات أهمية استراتيجية للأوطان؟ إن صفة الاستراتيجيا هنا تدل على خطط طويلة الأمد ذات أهداف عالية، وذات أساليب متطابقة مع تحقيق هذه الأهداف.
إذاً هناك شروط لا بد أن تتوافر في مراكز الأبحاث الاستراتيجية لكي تكون ذات أهمية، حيث لا يمكن لدولة تواجه مشكلات داخلية وخارجية إلا إذا استندت إلى معرفة موضوعية بالمشكلة وأسبابها والخروج منها، وحصر الممكن القابل للتحقق.
وبهذه المناسبة حسبي أن أذكر ما رواه لي صباح قباني سفير سوريا الأسبق في الولايات المتحدة الأمريكية حين قال:
وعندي بأن كل صعد المجتمع جميعها تحتاج إلى مراكز بحث، ولكن مراكز البحث الاستراتيجي هي تلك المراكز التي تزود الدولة بما تحتاجه من معرفة موضوعية ضرورية لرسم السياسات وطرق تحقيقها.
وعندي بأن الموضوعية هنا ذات ارتباط شديد بالوطنية.
وشرط الموضوعية هنا التحرر من الوعي الأيديولوجي الذي يفسد البحث العلمي في السياسة، وبالتالي إن الشرط الأهم الذي يجعل مراكز البحث ذات أهمية هو التحرر من النزعة الذاتية الأيديولوجية، فالنزعة الأيديولوجية قد تسعى لإرضاء صاحب القرار بمعرفة زائفة، وهذا ينتج ضرراً غير محمود في الممارسة السياسية.
ولهذا فإن مراكز الدراسات التي يُقيمها الأفراد غالباً ما يكون لها من الأهداف التي تحيد عن أهداف الدولة.
ولأن مراكز البحث استراتيجية، فإن المعرفة الإنسانية الضرورية في نشاط مراكز البحث يجب أن تتوزع وتتكامل للوصول إلى الإلمام بكل جوانب الموضوعات الخاضعة للدراسة. فكل مشكلات الدول والعالم مرتبطة بالبنية التي تولد هذه المشكلات.
فبنية أي مجتمع بنية مترابطة، إذاً لا يمكن فصل السياسي عن الاقتصادي، كما لا يمكن دراسة الواقع السياسي الاقتصادي دون دراسة المؤسسات ودورها في تنظيم المجتمع، وهكذا.
ولهذا فمركز البحث الاستراتيجي يحتاج إلى السوسيولوجي والمؤرخ وعالم النفس والخبير الاقتصادي وعالم السياسة والإنثروبولوجي والفيلسوف، وتضافر جهود هؤلاء جميعاً يسمح بالإحاطة بكل جوانب الموضوع.
وإذا كان صحيحاً بأن مقصود معرفة الظاهرة، أو الأزمة، أو المأزق الوصول إلى المعرفة الموضوعية، كما قلنا، لكن المعرفة الاجتماعية تختلف عن المعرفة الميكانيكية أو الفيزيائية، لأن المعرفة الاجتماعية بعامة والسياسة بخاصة هي معرفة موضوعية احتمالية، ولهذا فإن التوقع محفوف بالفشل، وفي ضوء ذلك فإن مراكز البحث المرتبطة بتقديم المشورة يجب أن تلم بكل الاحتمالات الممكنة التحقق، للحيلولة دون الوقوع بما لا يُحمد عقباه في المستقبل. لا يمكن أن تتأسس سياسة دولة على توقع حدوث احتمال واحد، بل لا بد من الإلمام بحزمة الاحتمالات، وهنا تبرز أهمية مقولتي الواقع والممكن.
وهناك أمر في غاية الأهمية ألا وهو معرفة ذهنية الآخر، ذهنية الجماعة، ذهنية الخصم، والذهنية تحدد أنماط السلوك، ودراسة الذهنيات من أهم ما يجب القيام به، من ذهنية أصحاب القرار إلى ذهنية الجماعة.
فمعرفة الذهنيات تساعدنا على معرفة ردود الفعل الممكنة، وهنا تبرز أهمية علم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع النفسي في الدراسات الاستراتيجية. إن مراكز الدراسات الاستراتيجية تتيح لأهل العلم والاختصاص خوض جملة مناقشات وحوارات مجردة من الأهواء للوصول إلى الموضوعية.