هناك حاجةٌ ماسة الآن لإعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، فهذا الأمر حجر الزاوية في بناء المستقبل العربي الأفضل.

طبعاً، يبقى المدخل الصحيح لأي نهضة عربية في تحقيق أوضاع دستورية سليمة في البلاد العربية، عِلماً بأنّ المشكلة الآن ليست فقط في غياب الحياة الديمقراطية السليمة، وإنما أيضاً في ضعف الهُويّة العربية المشتركة وطغيان الهُويات الطائفية والمذهبية والإثنية على معظم المجتمعات العربية.

وفي محصلة هذا الواقع تكمن أخطار الانقسامات داخل الأوطان العربية، وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، وإنما أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي، إذ حينما تضعف الهُويّة العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.

إنّ العودة للعروبة هويةً جامعةً حاجةٌ قصوى الآن لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاونٍ عربيٍّ مشترك وفعّال في المستقبل.

العروبة المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل عودة إلى أصالة هذه الأمَّة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللعنصرية. ومن دون عروبةٍ جامعة لن تكون هناك أوطان عربية واحدة.

إنّ «الكلّ العربي» مكوَّن أصلاً من «أجزاء» مترابطة ومتكاملة فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل تحدّدها في إطار علاقة الجزء بالكل.

إنّ القومية تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وتحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، ولكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً ولذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن «فكر قومي» مقابل «فكر ديني»، بل يمكن القول «فكر علماني» مقابل «فكر ديني»، تماماً كالمقابلة بين «فكر محافظ» و«فكر ليبرالي»، و«فكر اشتراكي» مقابل «فكر رأسمالي».. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير «الفكر القومي» فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي ولذلك أيضاً، يكون تعبير «العروبة» هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتّى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب بقضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.

إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. والعروبة تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها.

إنّ «الهويّة الثقافية العربية»، لغةً وثقافةً، سبقت وجود الدعوة الإسلامية قبل 15 قرناً من الزمن، ولكنّها كانت محصورة في القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، وفي الأصول العرقية للقبائل، وفي مواقع جغرافية محدّدة.. بينما العروبة – هويةَ انتماء حضاري ثقافي - بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بوساطة روّاد عرب فهكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبذلك خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله الإثنية.

ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من ناحية الدم أو العرق.

ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من ناحية احتساب الأقليات الدينية في المنطقة العربية نفسها جزءاً من الحضارة الإسلامية، ومن ناحية تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باحتسابها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق.

فعسى أن نشهد قريباً ولادة حراك عربي جادّ يحرص على الهويّة الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطّائفي أو المذهبي أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول - بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة - إلى «اتّحاد عربي ديمقراطي» حرّ من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق كل المواطنين.