يفيض عالمنا الرقمي اليوم بكم هائل من البيانات والوثائق والمستندات، لا سيما مع انتشار التطبيقات الذكية، التي أصبح لها دور مؤثر على المهن القانونية والأنظمة القضائية بالتحديد؛ حيث أحدثت تغييراً جذرياً على نظام العدالة الرقمية والتقاضي عن بُعد؛ ما سهل على المحاكم سرعة الفصل في القضايا وإتمام المهام وصولاً إلى العدالة الناجزة؛ الأمر الذي حدا بالعديد من الدول إلى مواكبة هذه المتغيرات من خلال وضع استراتيجيات تهيئ لدمج الذكاء الاصطناعي في عمل الأنظمة القضائية.

امتد تأثير الذكاء الاصطناعي ليشمل العديد من فروع القانون، كالقانون المدني والتجاري والجنائي؛ حيث تم استخدام الذكاء الاصطناعي في إبرام العقود الذكية، وهي مجموعة من الوعود التي تكون محددة في نمط رقمي على شكل أكواد، ولا يتم التعبير عنها في صورة كتابية، بل في شكل أكواد رقمية، بما في ذلك البروتوكولات التي بموجبها يؤدي أطراف العقد الوعود والالتزامات محل التعاقد الذكي، والغرض من هذه العقود هو إنشاء سلسلة من الإرشادات القابلة للتنفيذ والمعالجة حاسوبياً، وكذلك في مجال مراجعة العقود نجد أن للذكاء الاصطناعي دوراً مهماً يتميز بالدقة والسرعة في مراجعة العقود أكثر من البشر؛ لكونه مصمماً في برمجيات وأنظمة تمكنه من هذه المراجعة بدقة كبيرة وسرعة شديدة، كما أنه يمكن استخدام هذه التقنيات في إجراء التحليلات للسوابق القضائية.

ويمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أيضاً إجراء المفاوضات العقدية، كتحديد الاحتياجات التي يكون المستهلك بحاجة إليها، والتي يمكن أن ينجذب إليها ويتم التعرف عليها من خلال الإعلانات، أو بدافع التعرف على المنتجات؛ حيث يستطيع النظام وضع تعريف المستخدم عن طريق بعض الأسئلة التي يمكن من خلالها التعرف على ذوق المستهلك أو رغباته، وتبصيره بالتطورات الجديدة التي قد تكون ذات فائدة بالنسبة له، وكذلك البحث عن المنتجات من خلال الحصول على المعلومات عن السلع أو الخدمات التي يرغب المستهلك في شرائها، كتقييم المنتج على أساس المعايير التي يتم توفيرها من المستهلك ونتيجة ذلك، كما يمكن لهذه الأنظمة البحث عن موردين للمعلومات وتقييم البائعين وفقاً للمعايير المحددة من قبل المستهلكين، مثل السعر والضمان ووقت التسليم.

وفي المجال الجنائي لا ننكر الدور الفعال لتقنيات الذكاء الاصطناعي، فمن خلاله يمكن تسهيل مهمة تصنيف المجرمين بسهولة وموضوعية، وتحديد الأماكن الأكثر تعرضاً لزيادة نسب الإجرام بها، بما يساعد في إيجاد حلول لمواجهة هذا الأمر، وكذلك المساعدة في الكشف عن مرتكبي الجرائم من خلال تصوير مسرح الجريمة ودراسة الحالة الصحية للمتهم بارتكابها والتعرف على الوجه، وكذلك يمكن عن طريق هذه التقنيات تقييم الأشخاص المسجونين في المؤسسات العقابية ودراسة حالاتهم من خلال التقارير التي يتم إدخالها لهذه التقنيات، ثم يقوم بتحليلها، والوصول بعد ذلك إلى نتيجة موضوعية وحيادية بخصوص الإفراج الشرطي عن المتهم أو إكمال عقوبته.

لقد أثبت الذكاء الاصطناعي قدرته على إنجاز المهام التي تتطلب ذكاءً بشرياً، وهذه القدرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثورة الفكر وجهود المبدعين، ولا شك في أنه أسهم في تطوير الأنظمة القضائية، إلا أن استخدامه أثار العديد من التحديات من حيث مدى ملاءمته للتشريعات السائدة. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل محامو الغد مهيؤون فعلاً لاستخدام هذه التكنولوجيا الجديدة وكل ما يعد به الذكاء الاصطناعي لخدمة العدالة الرقمية؟ وهل القوانين والتشريعات كافية لمعالجة المخاطر المرتقبة التي قد تنتج عن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل يضمن سيادة القانون؟ 

لذا نرى أنه يجب مواكبة التشريعات للتطور السريع في هذا المجال، ووضع إطار قانوني لاستخدام تطبيقاته المستجدة بما يتوافق مع الصالح العام وأحكام القانون ودوره في حماية المجتمع، فضلاً عن ضرورة العمل على وضع مناهج وبرامج في الجامعات من أجل إعداد محامي المستقبل على استخدام الذكاء الاصطناعي، وتأهيل الكوادر البشرية في مجال المهن القانونية والأنظمة القضائية لتمكينها من التعامل مع هذه التقنيات الحديثة والذكية.