إرهاصات وتطورات النظام العالمي الجديد لم تتوقَّف عند التكتلات الاقتصادية الجديدة، أو عند البحث عن أنظمة مالية وعملات جديدة، بل تعدَّته نحو استحداث نظام في سوق العمل يقوم على تطوير علاقة تعاقدية جديدة بين المُشغِّل والمُشتغِل، وهو ما بات يُعرَف اليوم باقتصاد الوظائف الحرة Gig Economy، وقد ظهر مصطلح الوظائف الحرة أو المؤقتة كمفهوم اقتصادي في منتصف القرن المنصرم في بريطانيا، كما عُرِفَ أيضاً باقتصاد الوظائف المؤقتة، أو الوظائف تحت الطلب، ما يعني الجاهزية لتقديم عملٍ ما وقت الطلب، دون الحاجة إلى تعاقد رسمي طويل الأمد، ودون الالتزام بمتطلبات العمل الرسمية، من ساعات عمل، وأوقات دوام، ومتطلبات إضافية في مجال التأمين الصحي، والتأمينات الاجتماعية، أو الإجازات السنوية المدفوعة، أو أيِّ نفقات أخرى تفرضها متطلبات التعاقد وفق قوانين العمل السارية في معظم دول العالم اليوم.

ومنذ ذلك الوقت فقد انتشر مفهوم العمل الحر، أو المؤقت، ضمن مجموعة من الوظائف التي يؤديها العامل، المُستخدَم، بتعاقد شخصي مؤقت، ولا تشكِّل علاقة عمل رسمية مع الجهة التي يؤديها لها. وقد يُشار لها بالعمل الحر أحياناً، أو ما يُعرَف اصطلاحاً باللغة الإنجليزية Freelance، وهي وظائف يُعرَف عنها أنها مهام قصيرة الأمد تتم على مشاريع محدَّدة، وقد لا تتطلَّب تعاقداً رسمياً، كما يمكن للشخص الذي يقوم بها أن يكون مرتبطاً بأكثر من عمل مع أكثر من جهة، كما أنَّ كثيراً من تلك الوظائف تعتمد على العمل عن بُعد وعبر منصات رقمية، وكثيراً ما يؤدي هذه الوظائف شخصٌ في دولة أخرى تبعد آلاف الأميال عن موقع العمل الحقيقي.

وقد أضحت هذه الوظائف اليوم تشكِّل نحو 37% من القوة العاملة في الولايات المتحدة، وبحجم يتجاوز 70 مليون وظيفة، وتتوقَّع الدراسات أن تصل الوظائف الحرة في أمريكيا إلى ما يزيد على 90 مليون وظيفة بحلول عام 2028. ومن الواضح اليوم، وفي أعقاب جائحة كورنا (كوفيد-19)  أنَّ ظاهرة الأعمال الحرة Freelance Jobs، انتشرت في القارة الأوروبية العجوز، لتشكِّل نحو 30% من القوة العاملة هناك أو ما يزيد على 100 مليون وظيفة في الوقت الراهن، وقد أسهمت الجائحة في تسهيل انتشار مفهوم الوظائف الحرة والمؤقتة، والعمل عن بُعد، حتى باتت تنمو بنسبة كبيرة، تتجاوز 15% سنوياً في الولايات المتحدة، وتشير الإحصاءات العالمية إلى أنَّ السنوات الثلاث الأخيرة شهدت نمواً في حجم المشاركين في الوظائف الحرة أو المؤقتة بنحو 513% في اليابان، في حين وصلت تلك الزيادة نحو 329% في إسبانيا و300% في بريطانيا. وقد أسهمت تلك الوظائف، بحسب بعض الدراسات، في توليد ما يقرب من 204 مليارات دولار من الدخل في أمريكا خلال عام 2018، جاء أكثر من نصفها من قطاع النقل، وخاصة ما يُعرَف بقطاع النقل عبر التطبيقات الذكية. ومن المتوقَّع أن تصل تلك المساهمة إلى نحو نصف تريليون دولار في العام الحالي.

وقد أكَّدت تلك الدراسات أنَّ قطاع الشباب ضمن الشريحة العمرية (18-34) هم الأكثر مساهمة في اقتصاد الوظائف الحرة، وبنسبة تتجاوز 38%، كما تسهم الإناث بنحو 48% من القوة العاملة في قطاعات اقتصاد الوظائف المؤقتة، وقد أظهرت نتائج أحد الاستبيانات العالمية أنَّ التوظيف المؤقَّت شمل نحو 33% في مجال تقنيات المعلومات، و25% في اللوجستيات، و15% في مجالات البحث والتطوير والتسويق، بل إن دراسة حديثة أظهرت في استبيان على العاملين في الوظائف الحرة والمؤقتة، أنَّ 80% منهم يعتقدون بأنَّ تلك الوظائف تساعد بشكل أكبر على خَلْق التوازن المطلوب بين الحياة العملية والاجتماعية. بيد أنَّ الوظائف في سوق العمل الحر المؤقَّت تواجه العديد من التحديات، ولعلَّ أهمَّها الاستقرار الوظيفي، وعدم كفاية الدخل أحياناً، أو عدم استدامته، كما يواجه العمل المؤقت الحر تخوُّفاً من أصحاب العمل من جودة العمل، ومدى التزام العامل به، وأخيراً وليس آخراً هناك تحدي عدم القدرة على متابعة العمل والسيطرة أو الرقابة على مخرجاته، خاصة عندما يكون التعاقد عن بُعد.

الشاهد ممّا سبق أنَّ المنطقة العربية، كغيرها من مناطق العالم، تواجه تحدياً كبيراً في شأن البطالة، وخاصة شريحة الشباب، التي يتجاوز متوسطها في هذه الشريحة ربع القوة العاملة العربية، حسب بعض التقديرات، ما يعني أنَّ مفهوم العمل الحر والمؤقَّت قد يكون هو المخرج الرئيس في توظيف ملايين الشباب من الجنسين في مهام ووظائف ومشاريع محلية أو عبر الحدود من خلال العمل عن بُعد، تساعدهم على توفير دخل مناسب من جهة، وتؤدي إلى تحريك المشاريع القائمة أو المستقبلية بكُلَفٍ مناسبةٍ دون أعباء مالية وإدارية كبيرة من جهة أخرى. بل إنَّ مجتمع الشباب، الذي يُشكِّل نحو 60% من سكان المنطقة العربية، يمكنه أن يكون الطاقة البشرية القادرة على العمل عن بُعد في شتى مشاريع ودول العالم، دون الحاجة إلى الانتقال الجسدي من مكان إلى آخر، فالعالم اليوم يتحوَّل من مفهوم المواطن العالمي Global Citizen، إلى مفهوم العامل العالميGlobal Employee، وهو ما يتطلَّب من ذلك العامل مجموعة من المهارات التي يجب أن تساعده دوله للحصول عليها؛ لكي يتمكَّن من اقتناص أكبر قدر ممكن من العمل الحر، والمشاريع تحت الطلب، ولعلَّ من أهم تلك المهارات القدرات الرقمية، والتمكُّن من لغة أجنبية، أهمُّها اللغة الإنجليزية، ومهارات الاتصال والتواصل، وما يعنيه ذلك من قدرات في مجال التحليل والإبداع. ويشير أحدث تقرير لوظائف المستقبل للمنتدى الاقتصادي العالمي أنه بحلول عام 2027 ستختفي نحو 85 مليون وظيفة، وتظهر نحو 69 مليون وظيفة جديدة جميعها تتطلَّب المهارات المشار إليها، ذلك أنها تدور في فضاء مجال البيانات الكبرى، والتكنولوجيا الخضراء، والأمن السيبراني، وتقنيات الزراعة، وتكنولوجيا التطبيقات الذكية، وتقنيات الاستدامة والبيئة الخضراء.

وختاماً، فإنَّ الجهات المسؤولة عن الموارد البشرية في المنطقة العربية مطالبة بأن تقوم بدروها المحوري نحو تمكين الشباب العربي بالمهارات المطلوبة؛ لأنَّ العالم لم يعد يهمه الشهادات التي يحملها الشباب بقدر اهتمامه بالمهارات الثلاث المشار إليها سابقاً، وسيكون الفرق بين مهندس وآخر، أو طبيب وآخر، أو محامٍ وآخر، أو محلل مالي أو اقتصادي أو إداري وآخر في المهارات التي يمتلكها في مجالات الرقمنة واللغات، ومهارات الاتصال والإبداع والابتكار، وليس الشهادة العليا مهما كان مصدرها. تمكين الشباب من تلك المهارات، من قِبَل المدارس والجامعات ومؤسَّسات التأهيل المختلفة، هو مفتاح إدماجهم الحقيقي كقوة منتجة وفاعلة في أي مجتمع، ولعلَّ سوق العمل الحر هو أحد مسارات ذلك الإدماج، كما قد يتطلب ذلك مبادرات على المستوى الوطني لكل دولة تكون موجهة نحو توفير غطاء من التأمين الصحي، والتأمينات الاجتماعية، وحتى تأمين البطالة، وذلك عبر تشجيع شركات التأمين المحلية والعالمية بتقديم غطاء متكامل للموظفين في ا لوظائف الحرة والمؤقتة يساعد على توفير خدمات تأمين صحي، وتأمين الرواتب التقاعدية المستقبلية، ورواتب تأمين العجز الكلي أو الجزئي، وتأمين البطالة إن لزم.