من بين كتب القراءات المبكرة، التي لفتت الانتباه إلى أن مشاهدة السينما يجب ألا تكون للتسلية فقط، بل أيضاً للتفكير والتأمل الواعي لرسائلها وأهدافها، كتاب «سفير أمريكا بالألوان الطبيعية»، للناقد والسيناريست والمخرج والفنان التشكيلي كامل التلمساني، الذي يعد فيلمه «السوق السوداء» واحداً من بين أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما العربية، وكما تفعل معظم وسائل التعبير الفني والأدبي والثقافي فإن للأفلام رسائل بعضها واضح، يدركه المشاهد بسهولة، وبعضها مستتر يتسلل إليه من أبواب خلفية، وعلى المشاهد الفطن ألا يفارقه الوعي، وهو غارق في الانبهار بأحداثها.
وفي كتابه يقول التلمساني: إن «أفلام هوليوود هي سفير فوق العادة للولايات المتحدة الأمريكية، وهي سفيرها الأول لدى شعوب العالم، لما تنطوي عليه من توجهات اجتماعية واقتصادية وسياسية»، وهو ما يؤكده المؤلف الأمريكي ليو روستن في كتابه «السياسة تحلق فوق هوليوود» بقوله: «إن الأفلام سلعة عالمية، وقد دفع هذا بالسياسة إلى هوليوود، لكى تلتحم معها في عنف لا يهدأ، كما أن النوبات العنيفة، التي حاقت بسياسة القوة أثناء الحرب العالمية الثانية قد ألقت بالأخطار المحدقة بالعالم إلى أحضان هوليوود، مما أدى إلى أن تسبق اليقظة السياسية لهوليوود الصحوة السياسية في أمريكا، وتتقدم المعارك الفكرية المعارك الحربية، لتمهد لها السيادة والنصر».
كتاب كامل التلمساني (1915-1972) الصادر عام 1957 أثر في أجيال كثيرة من نقاد السينما ومشاهديها، كما أعجب به الرئيس جمال عبد الناصر، وأرسل له رسالة شكر على إصداره.
وخلال العقود الماضية تبين صحة ما ذهب إليه التلمساني، حيث باتت البنوك والتكتلات الاستثمارية وقوى الضغط السياسية والمالية والحزبية الغربية والأمريكية تتحكم في كل عمليات صناعة السينما، وفي السيناريوهات التي تكتب لها، وفي طرق وأوقات ترويجها، وفي صناعة النجوم أو تغيبهم عن المشهد، وحتى في تحديد الجوائز، التي تمنح لصناعها ونجومها في مسابقات الأوسكار الشهيرة، وهو ما فتح المجال لكي يظهر في الساحتين الأوروبية والأمريكية ما أصبح يعرف بتيار السينما المستقلة، التي تسعى لقول الحقيقة، التي تجاهد «المؤسسة الغربية» من أجل إخفائها.
تذكرت كتاب التلمساني بعد مشاهدة فيلم «جولدا»، الذي يجسد جانباً من السيرة الذاتية لرئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير، وبالتحديد فترة إدارتها لحرب أكتوبر 1973 وحتى وفاتها عام 1978، وهو إنتاج أمريكي- بريطاني مشترك، وإخراج المخرج الإسرائيلي جاي ناتيف، وتأليف السيناريست البريطاني نيكولاس مارتن.
الفيلم دعائي، شديد التواضع، يظهر جوالدا مائير وهي تخضع للجنة أجرانات للتحقيق في هزيمة إسرائيل وهي تقول للمحققين لقد حولت الانكسار إلى نصر.
يركز الفيلم على بطلة الحدث وطريقتها في التفكير وإدارة المعركة، وقدرتها على إقناع هنري كيسنجر بجلب مزيد من الدعم العسكري الأمريكي، ونجاح طاقمها الحربي في عمل ثغرة الدفرسوار شرق قناة السويس، حيث تمكن خلالها الجيش الإسرائيلي من حصار الجيش الثالث الميداني، وتطويقه لأكثر من أسبوعين، والفيلم يعترف بمفاجأة الجيش وأجهزة المخابرات الإسرائيلية باندلاع الحرب، وبشجاعة وقدرة الجنود المصريين والسوريين في ساحات القتال.
أنقذ الأداء المتقن لشخصية جولدا مائير للممثلة البريطانية هيلين ميرين الفيلم من حالة الملل، التي ينطوي عليها إيقاعه البطء، وإذا ما طبقنا ما أوصى به كامل التلمساني في كتابه فإن ظهور الفيلم وإجازة عرضه هذا العام في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، لم يكن صدفة بطبيعة الحال، وهو نجاح لحرب الدعاية، التي يقود بها الغرب معاركه.
يجدد عرض الفيلم الحسرة على استمرار غياب فيلم عربي يليق بأحداث حرب أكتوبر، ويتناسب مع أهميتها، ويوثق ما جرى فيها، ويوضح الأدوار المهمة العربية والدولية التي أسهمت في نجاحها للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي– الإسرائيلي.
ظهر في السينما المصرية عدد محدود من الأفلام التجارية، التي تتحدث عن الحرب بأحداث مكررة ومقحمة على وقائعها، وأخرى ذات مستوى فني رفيع، ترصد كما فعل فيلم «سواق الأوتوبيس» انعكاس نتائجها على الفئات الاجتماعية الشعبية، التي شارك أبناؤها في الحرب، واستشهد منهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل، لا سيما بعد التغيير في الاختيارات السياسية والاقتصادية لنظام الرئيس السادات، وتوقيع معاهدة الصلح مع إسرائيل، والخلافات التي نشبت حول ما سمي الاستثمار الخطأ لنصر أكتوبر، وبدء سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي حصد أرباحها سماسرة من اللصوص الفاسدين.
وفى ظل تلك الظروف الصعبة لم تتمكن السينما المصرية من إنتاج فيلم حربي كبير يسجل بمهارة فنية أحداث الحرب، والتضحيات الهائلة، التي أوصلت للنصر فيها، ليس فقط بسبب عدم توفر التمويل الباهظ لإنتاج مثل تلك الأفلام الحربية، ولكن أيضاً لأسباب سياسية.
ومع تحكم الصورة في عالم اليوم فقد آن الأوان لكي تدرك الدول العربية ما يذكرنا به كتاب التلمساني: «إن الفيلم العربي هو سفيرنا الساحر من أجل الدفاع عن قضايانا العادلة».