في عصر شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد والبيئة الرقمية، تضاعف الدور الاستراتيجي والمحوري لوسائل الإعلام، سواء في حياة الأفراد أو المنظمات أو المجتمعات، وأصبحت الكثير من الأفكار والصور والمعتقدات، تحددها الرسائل التي نتلقاها يومياً من خلال الفضائيات وشبكة الإنترنت والإعلانات والصحف والمجلات والإذاعات، وأصبح المنتج الثقافي يحاصرنا في كل زاوية. 

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام، هو إلى أي مدى تتقيد المؤسسات التي تصنع المنتج الثقافي، وفي نفس الوقت تصنع الرأي العام - بما فيها وسائل الإعلام المختلفة بأخلاقيات العمل الإعلامي؟ وهل هناك ضمير مهني يوّجه حسب مبادئ وأسس وقيم إنسانية ومهنية، ما يقدم لعقل الإنسان وإدراكه، حتى يكوّن صوره ومواقفه عما يحدث من حواليه، ابتداء من محيطه الأقرب إلى أقصى بقاع العالم؟. 

التجارب العديدة وتاريخ الحروب والنزاعات والصراعات بين الأفراد والمؤسسات والأمم والثقافات والأديان والأيديولوجيات... إلخ، كلها أكدت أن الصناعات الثقافية والصناعات الإعلامية تحددها وتسيرها نزوات وشهوات وميول ومصالح وأيديولوجيات، قد تتنافى جملة

وتفصيلاً مع المبادئ الأخلاقية للعمل الإعلامي وللصناعات الثقافية. وعملاً بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، نجد أن العديد من مخرجات وسائل الإعلام والثقافة تضرب عرض الحائط احترام المستقبل، وتضع نصب أعينها ما يريده صاحب المؤسسة الإعلامية، والقوى الخفية التي تسيّرها وتديرها، وتلتحم وقتها السياسة بالمال، وتضيع أخلاقيات العمل الإعلامي. 

تغطية الحروب والنزاعات، تغطية حرب الخليج الثانية، أحداث أوكلاهوما، وأحداث 11 سبتمبر، والحرب على الإرهاب، وكذلك الحركات التحررية في العالم، والقضايا المختلفة بين العالم المتقدم والدول النامية، بين الشرق والغرب، بين الذين يملكون والذين لا يملكون، كلها أثبتت أن القيم والمبادئ التي من المفروض أن تقوم عليها الكلمة الصادقة والعمل الإعلامي النزيه والموضوعي والمسؤول، كلها وهم وتنظير. فالعمل الإعلامي أصبح أقرب إلى «فبركة الواقع»، منه إلى تفسير وشرح وتقديم هذا الواقع إلى الجمهور. والفبركة بطبيعة الحال تحكمها مصالح وآليات تضرب عرض الحائط مقومات العمل النزيه والمسؤول والموضوعي، وما يهمها في المقام الأول هو تكييف العقول والآراء والصور مع مصالح القلة القليلة التي تحكم، سواء محلياً أو عالمياً، ويتحقق هذا في غالب الأحيان على حساب الحقيقة والواقع. 

مهنة وممارسة الإعلام في مختلف المؤسسات الإعلامية، بحاجة إلى أخلاقيات وضوابط وأسس ومبادئ ومواثيق شرف وأعراف وآداب تسير عليها، وتعمل وفقها، حتى تبقى شريفة، نزيهة، ونبيلة، تؤدي مهمتها على أحسن وجه، بعيداً عن المزايدات والمساومات، وكل ما يسيء إليها وإلى أخلاقياتها. وأي عمل إذا لم يلتزم بضوابط وبأخلاق وبأسس وقوانين، يصبح فوضى، تتلاعب به القوى التي قد تكون مصالحها بعيدة عن الصالح العام، وعن قيم المجتمع ومبادئه. الإعلام الجاد والهادف والملتزم، هو ذلك الإعلام الذي يبتعد عن الغرابة والإثارة والتقليد والسعي وراء تحقيق الأرباح بأية طريقة كانت. فالمهمة الاستراتيجية للعمل الإعلامي، هي الكشف عن الحقيقة، وإبلاغ الفرد وإدماجه في المجتمع، وإشراكه في اتخاذ القرار. دور الإعلام هو جعل الفرد في المجتمع فرداً واعياً مثقفاً متعلماً، يعرف حقوقه وواجباته ومسؤولياته. الإعلام يهدف إلى التغيير والإصلاح والتوجيه والتوعية، بدلاً من إثارة الفتن والقذف والتجريح والتشويه والتضليل والدعاية المغرضة. 

   حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية الرأي، هي مبادئ وقيم وممارسات ومسؤولية اجتماعية وسلوك حضاري، والمسؤولية هنا تأتي بالدرجة الأولى لخدمة الصالح العام والسوق الحرة للأفكار، وليس الإساءة للآخرين، والنيل منهم عن طريق الشتم، والمساس بكرامتهم، وسيادتهم، وأصولهم. والمسؤولية في الممارسة الإعلامية، لا تعني في أي حال من الأحوال الرقابة والرقابة الذاتية، أو التسلط على المؤسسة الإعلامية، أو الحذف أو الضغط بمختلف أشكاله، بقدر ما تعني التحلي بأخلاقيات المهنة، وبالمهنية والاحترافية.

    في أخلاقيات العمل الإعلامي، يجب على القائم بالاتصال الرجوع دائماً إلى المنطق، وأن يسأل السؤال التالي دائماً، ما دوره في المجتمع، وما مسؤوليته أمام قرائه ومستمعيه ومشاهديه، وما هدف العملية الإعلامية؟ أهو التشهير أم القذف؟ أم خدمة المصلحة العامة، أم إلحاق الضرر بالآخرين، أم التضليل والتزييف والتشويه؟ أم أن رسالته في المجتمع، هي رسالة نبيلة، تتمثل في الكشف عن الحقيقة بكل موضوعية ونزاهة والتزام، فالتحلي بالأخلاق والامتثال للقانون وللصالح العام ولمواثيق الشرف، من المميزات الرئيسة للعمل الإعلامي الناجح، والمسؤول، والهادف، والملتزم. 

   ما يؤسفنا قوله عن واقع أخلاقيات الممارسة الإعلامية في العالم، هو غياب الكثير من مستلزمات الممارسة المسؤولة والنزيهة والملتزمة، حيث نلاحظ غياب الضمير المهني والمسؤولية الاجتماعية، وكذلك غياب الجمعيات والنقابات والاتحادات الإعلامية، وإن وجدت، فتكون شكلية فارغة من محتواها الحقيقي. بالإضافة إلى أن الضغوط المختلفة على المؤسسة الإعلامية، وعلى الصحافي نفسه، وكذلك غياب حرية الصحافة في الكثير من الأحيان، وضعف القوانين والتشريعات الإعلامية – سواء ما يتعلق بالنص، أو ما يتعلق بالتطبيق والممارسة- كلها عوامل تؤثر سلباً في البعد الأخلاقي في معادلة الممارسة الإعلامية. الخاسر في كل هذا هو كلمة الحق، هو الرأي العام المستنير، هو السوق الحرة للأفكار. بدون حرية رأي وحرية تعبير وحرية صحافة، لا وجود للقرار الرشيد، ولا للإبداع والابتكار، ولا للحوار والنقاش والرأي والرأي الآخر.