كان أول من ساعده على فك طلاسم النحو، بعد أن كان قد اعتاد على فقدان معظم الدرجات المخصصة له في امتحان مادة اللغة العربية على مدار سنوات، علمه كيف يقوم بالإعراب، بعد فهم القواعد بدلاً من حفظها، يتذكر اسم مدرسه بالكامل، رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً، على آخر لقاء به، حينما أنهى مرحلة الدراسة الثانوية.

لم يكن هذا المدرس عابراً في حياة صديقي المذيع، الذي قص لي حكايته البسيطة بتأثر شديد، وبفضله، كما يقول، لا يرفع المنصوب، ويجر ما يجب تسكينه على الهواء أو تحته.

الهدية البسيطة التي قدمها جار لصبي صغير، لم تكن ضئيلة الأثر في حياة الأخير، بعد أن فتحت أمامه آفاق الرسم وعالم الألوان، فأصبح اليوم فناناً شاباً مديناً لفطنة يافع، استشعر بأن تلك الأدوات ستكون الأنسب للولد الهادئ، الذي لا يكف عن صناعة بعض الأشكال البسيطة على الأرض، والجدران.

القائمة تطول لو سعيت لسرد الكثير من الوقائع، التي قد تكون اعتيادية، وبسيطة، إلا أن تأثيرها كان كبيراً ومحورياً لدى أصحابها، فبعض الكلمات حاف يضاعف الطاقة، وبوصلة تصحح الاتجاه، وقوة ملهمة، فما بالنا بالفعل الملموس في حياة الآخرين، لتكون بمثابة يد ممدودة تمنح بلا مقابل، تربت على كتف، وتساند، جائزة أصحابها الوحيدة أن تقي سواهم من التعثر، أو التيه في أول الطريق، أو منتصفه، أو حتى آخره، فجميعنا بحاجة، مهما اشتد عودنا، وازدادت أقدامنا رسوخاً، إلى تلك اليد المساندة والحانية.

مرَّ على صديقي المذيع معلمون كثيرون، عشرات على الأرجح، احتاج إلى وقت طويل كي يتذكر أسماء ثلاثة منهم، حينما طالبته بذلك، وبالكاد أسعفته الذاكرة باسم واحد لكل منهم بدون اللقب، لكن ذاكرته صانت الاسم الكامل، والملامح الطيبة لمن كان أكثر جوداً في عطائه معه.

أما صديقي الفنان فقد أطلعني على بعض الأعمال، التي احتفظ فيها بملامح الجار القديم وطيفه، الذي سبق وأبدع له العديد من البورتريهات، لم يكن آخرها، في اليوم الذي تلقى فيه نبأ رحيله.

أولئك الذين آثروا ترك الأثر الطيب، والعبير الذي لا ينفد، لن يكونوا أبداً عابرين، فهم طيبو الحضور والذكر، هم أشخاص مؤثرون ضد النسيان في حياة من ألهموهم، وقد تمتد متوالية العطاء على ذات الدرب، لتحيا سيرة الملهمين، ويتضاعف ثمارها، حيث يمكث الخير، ويذهب الزبد.