يقوم منطق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أساساً على العدالة في المعاملة والمقاييس والمعايير، وعدم التمييز والتفرقة بين الشعوب والأعراق والأجناس، سواء كانوا من سكان الشمال أو الجنوب، أو كانوا ينتمون لدول فقيرة أو غنية. بالمقابل، نلاحظ أن الستة عقود الماضية، تشير إلى انتهاكات وتجاوزات بالجملة، تفننت فيها الدول نفسها التي شاركت في تحرير الإعلان، تلك الدول التي نصبت نفسها مسؤولة عن البشرية جمعاء، لكن وفق وجهة نظرها ورؤيتها.

يحتفل العالم في العاشر من ديسمبر من كل سنة، بذكرى ميثاق حقوق الإنسان، الذي وضع في سنة 1948م، والعبرة ليست في الذكرى، بقدر ما هي في ممارسة حقوق الإنسان في أرض الواقع، والملاحظ أن منذ البداية الأولى أي سنة 1948، كانت الانطلاقة خاطئة، وكانت هناك ازدواجية في المقاييس والمعايير، حيث إن في تلك الحقبة التاريخية، كانت دول وأمم وشعوب ترزح تحت نير الاستعمار، ولم يتطرق لها الميثاق، لا من قريب ولا من بعيد، ولم يولها أي اعتبار. ما الوضع في أيامنا هذه، أيام النظام الدولي الجديد، والعولمة والقرية العالمية والتجارة الإلكترونية.

وما الوضع ونحن في نظام القطبية الأحادية، وهل تمت عولمة ميثاق حقوق الإنسان؟ أم أن هناك فاعلين في النظام الدولي، يستعملون المصطلح والمفهوم وفق معطياتهم ومصالحهم، وهل بإمكاننا الكلام عن عالمية حقوق الإنسان، أم عولمة حقوق الإنسان؟ ما يمكن قوله هو أن حقوق الإنسان مثلها مثل حرية الصحافة وحرية التعبير والحريات الفردية والحريات مدنية، ومفاهيم ومصطلحات عديدة أخرى، أصبحت سلطة تمارس وتوظف في لغة السياسة والدبلوماسية، وأصبحت تُستعمل كوسيلة ضغط على عدد كبير من الدول التي تخرج عن سكة صانعي النظام الدولي. وتجدر الإشارة هنا أن ميثاق حقوق الإنسان منذ ظهوره، اتسم بثغرات ومصطلحات مبهمة، وتناقضات عديدة، تختلف مع قيم الكثير من المجتمعات ومعتقداتها الدينية وتقاليدها وعاداتها... إلخ. وإذا رجعنا إلى فلسفة حقوق الإنسان، ورجعنا إلى الثورة الفرنسية تحديداً، نجد أن المحور الأساسي يتعلق بترسيخ الشعور في نفسية المواطن بالتحرر من الاستبداد والعبودية والتبعية، وطغيان طبقة أو فئة معينة على باقي الطبقات والشرائح الاجتماعية في المجتمع، وهذه الأمور، مع الأسف الشديد، قائمة وموجودة داخل الدول، وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، هل بإمكاننا أن نضمن حقوق الإنسان لمواطني دولة مستعمَرة (بفتح الميم)، وهل بإمكاننا ضمان حقوق الإنسان في دولة تابعة ومسيطر عليها خارجياً من قبل دولة أو دول أو نظام دولي؟ إشكالية حقوق الإنسان معقدة، وأصبحت في عصر العولمة وسيلة ضغط في يد الدول القوية (حق التدخل)، للتحكم في مسار العلاقات الدولية وفق مصالحها وأهدافها، ومن أهم التناقضات التي يعيشها العالم في هذا المجال ما يلي: نلاحظ أن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، المدافع الأول عن حقوق الإنسان، تضرب عرض الحائط بهذا المبدأ في بلدها، وداخل حدودها، وهذا إذا تعلق الأمر بالأقليات، مثل السود والهنود الحمر- السكان الأصليين لأمريكا- والأقليات الأخرى، ومنهم العرب، ونلاحظ كم من مواطن عربي، بعد أحداث 11 سبتمبر، اتُهم وسُجن وطُرد من أمريكا بدون محاكمة. وما ينسحب على أمريكا، ينسحب على معظم الدول الأوروبية والدول المتقدمة.

فرنسا مثلاً في تعاملها مع المسلمين ومع مواطني شمال أفريقيا، تبتعد كلياً عن شيء اسمه حقوق الإنسان، وقصة الفتاتين المغربيتين والمنديل، وقصة محاكمة «جارودي»، واغتيال «مهدي بن بركة»، وقصة الحجاب، كلها قضايا وأحداث تبقى وصمة عار على دولة تدعي «الحرية-الأخوة-المساواة». نلاحظ كذلك أن الدول الفاعلة في النظام العالمي، تساند وتدعم أنظمة مستبدة ودكتاتورية في العالم الثالث، وهذا يتناقض جذرياً مع مبدأ حقوق الإنسان، لأن هذه الدول، وبحكم نظامها السياسي السلطوي، لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحترم حقوق الإنسان، إذا انعدمت فيها الحريات الفردية، وحرية الفكر والرأي والتعبير، والفصل بين السلطات، والغريب في الأمر، أن الدول الغربية تساند هذه الدول النامية لفترة زمنية معينة، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية، وبعد فترة معينة، تنقلب عليها، مثل ما حدث بين الولايات المتحدة وبنما، والولايات المتحدة واغتيال «أليندي»، وتدخُل دول غربية في إطاحة دول في العالم الثالث انتُخبت بطريقة ديمقراطية، فمبدأ حقوق الإنسان بالنسبة للدول الغربية، ينتهي عندما تبدأ مصالحها.

نلاحظ كذلك أن الولايات المتحدة التي نصّبت نفسها رقيباً على حقوق الإنسان في العالم، تكيل بمكيالين، إذا تعلق الأمر بإسرائيل وبأطفال فلسطين، وبالغارات على جنوبي لبنان، واحتلال الجولان، والغريب في الأمر، أن أمريكا نفسها تصنف دولاً عديدة كدول إرهابية، ودول لا تحترم حقوق الإنسان. أما بالنسبة لإسرائيل، فتوصف بالدولة الديمقراطية، والدولة التي ترعى وتحترم حقوق الإنسان والحريات المختلفة. أين حقوق الإنسان في فرض المقاطعة على ليبيا والعراق، وأين حقوق الإنسان في ضرب مصنع الأدوية بالسودان؟ تناقضات صارخة، لأن هذه العقوبات تتناقض جملة وتفصيلاً مع حقوق الإنسان، ومع أطفال وأبرياء هذه الدول، وبأي حق تفرض الولايات المتحدة نفسها شرطياً على العالم، وبأي حق تصنف الدول وتضعها في خانة الإرهاب وعدم احترام حقوق الإنسان. أين هي حقوق الإنسان عندما تحكم البنتاغون في حرب الخليج الثانية في الأخبار والمعلومات، وأصبحت قناة «سي إن إن» هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة في العالم، المسموح لها بتزويد البشرية جمعاء بما تراه خبراً أم لا؟ أين حق الاتصال وحق المعرفة وحق الإعلام؟.

أصبح مبدأ حقوق الإنسان وسيلة في يد الدول العظمى والفاعلة في النظام الدولي، للضغط وإدارة شؤون العالم وفق ما تمليه عليها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية، ونلاحظ هنا أن حتى بعض المنظمات غير الحكومية التي تعنى بشؤون حقوق الإنسان، قد تم تسيّيسها، وانحازت لدول ولمصالح ولأيديولوجيات معينة، على حساب خدمة مبدأ إنساني عالمي، لا يعرف في الأساس الحدود بين الديانات والشعوب والثقافات. كيف يكون مستقبل حقوق الإنسان في ظل العولمة، عولمة لا تؤمن بخصوصية الشعوب، ولا بالشعوب المستضعفة، عولمة همها الوحيد هو سلطة المال والسياسة والقوة. فالشركات المتعددة الجنسية التي تسيطر على المال والأعمال والتجارة الدولية، تستغل أطفال العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ضاربة بعرض الحائط أبسط حقوق الإنسان.

هذه الشركات المتعددة الجنسية التي تبتز أطفال العالم وفقراء العالم في ضوء النهار من جهة، وتطالب من جهة أخرى بحقوق الإنسان.

وكيف لنا أن نتكلم عن حقوق الإنسان في العالم، وهناك شعوب محرومة من حقها، حتى في العيش؟ يبدو ببساطة أن العالم بحاجة لوقفة مع الذات، ومع أخلاق الأنا والآخر. هذا هو التحدي الكبير الذي ستواجهه البشرية مستقبلاً. التحدي يتمثل أساساً في القيم الإنسانية والأخلاقية. أما إذا سيطرت ثقافة الاستعباد والاستغلال واحتقار الديانات والحضارات والشعوب، فالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، يبقى حبراً على ورق، ومجرد شعارات جوفاء، تستعملها القوى العظمى لفرض هيمنتها، وبسط نفوذها على شعوب العالم.