من أهم مكونات أي نظام سياسي هو التنشئة الاجتماعية، وتنشئة المواطنين بقيم معينة يعضد من صلادة النظام السياسي. النشء هم مستقبل الدولة وتنشئتهم من أهم الوظائف الذي تقوم به مؤسسات الدولة.

وما النظام السياسي إلا مجموعة من البنى تؤدي وظائف معينة، فكلما تعقدت وتوسعت في تركيبتها كلما دامت واستمرت، وكلما ضعف بناؤها وتواضعت بالتالي وظائفها كلما أصبح النظام السياسي مهزوزاً ـ بل إن مستقبل النظام السياسي في خطر.

ولك مثال في التاريخ السياسي اللبناني والذي أسس على أساس طائفي. كان تركيبة النظام الأمثل لمن كان يقود تلك الفترة تحت الاستعمار الفرنسي. فقد كان تحفز النخبة السياسية للاستقلال سبباً في اختيار صيغة ترضي المكونات الرئيسة في المجتمع اللبناني.

ولكن هذه التركيبة أثرت على التنشئة الاجتماعية لمواطني لبنان، فالمدارس حيث يتلقى التلميذ أوائل الدروس في الوطنية وحيث تصقل شخصيته، لها نفس طائفي. المناطق منقسمة طائفياً. المناهج ترسخ قيماً تتعلق بالطائفة بدلاً من الوطن الجامع. والممارسات السياسية تأتي لتكرس هذا المنحى عبر المحاصصة الطائفية.

يقول عالم الاجتماع اللبناني سمير خلف في كتابه «مازق لبنان» إن التطور السياسي للبنان أصابه عوار منذ القرن التاسع عشر حين تحول العصيان من قبل الفلاحين إلى حرب طائفية في متصرفية جبل لبنان في العام 1860. وبدلاً من أن يكون الاصطفاف بين أبناء الجبل ضد عدو مشترك أخذ التحزب منحى طائفياً ما زال تعاني منه لبنان إلى اليوم.

وتبددت منذئذ القيم المدنية والتي على أساسها تقوم المواطنة الحديثة. والأخيرة تفترض عضوية غير منقوصة في دولة تتطابق نظرياً مع أمة دون تفصيلات عرقية أو إثنية أو دينية أو طائفية.

وهناك تفصيل في الموضوع بما يخص الدول المتقدمة. هناك مقاربة تقبل بالتعددية، بل تحتفي بها كما في حالة الولايات المتحدة والتي تشكلت من قبل المهاجرين. وهناك مجتمعات تطلب الانصهار الكامل في المجتمع كما في حالة فرنسا. وفي كلتا الحالتين يتطلب تنشئة الصغار على الهوية الوطنية الجامعة سوى هناك قبول بالتعددية الثقافية أم لا.

وبسبب كثير من الاضطرابات السياسية والعنيفة في المجتمعات الأوروبية فإن هذه الدول بدأت تعلن إفلاس التعددية الثقافية. وشرعت هذه الدول في طلب انصهار المهاجرين في مجتمعاتهم. وما بروز حزب الحرية اليميني في هولندا بقيادة المتطرف المعادي للمسلمين خيرت فيلدرز كأكبر قوة سياسية في هولندا إلا دليل على الإصرار في الحد من هجرة أشخاص لا ينوون الانصهار في المجتمع والثقافة الأوروبية.

وقضية التنشئة الاجتماعية لخلق قيم سياسية مشتركة للمحافظة على تماسك المجتمع قضية تورق الولايات المتحدة. ففي برنامج أذاعته محطة أمريكية عمومية (PBS) تحت عنوان «أمريكا على مفترق الطرق»، سألت مذيعة البرنامج أحد الخبراء وهو قاضٍ سابق، ما هو قلقه على البلاد؟ فرد عليها «فجأة نحن الأمريكيين صرنا لا نتفق على أي شيء»! «نحن بكل تأكيد لم نعد نتفق على المبادئ والقيم التي أسست عليها هذه البلاد».

ويخطئ من يظن أن دونالد ترامب وسيطرته على الساحة السياسية، خاصة في فضاء الحزب الجمهوري، مسألة عابرة أو استثنائية. بل هي ظاهرة قوية تجتاح المجتمع السياسي الأمريكي. واستمرارية الظاهرة دليل على قوة التيار. وتعطي استطلاعات الرأي الرئيس السابق ترامب هامشاً كبيراً بين مرشحي الحزب الجمهوري يصل إلى 61%، بينما يصل ثاني منافسيه إلى 11% فقط.

ينذر القاضي السابق المشار إليه أعلاه في شهادة للكونغرس الأمريكي قبل سنة ونصف السنة أن البلاد على شفا حرب أهلية. وإني أؤكد اليوم على أننا قريبون أكثر من أي وقت مضى حرفياً إلى حرب أهلية. التنشئة الاجتماعية عنصر مهم في الحفاظ على النظام السياسي وتماسكه. والخلل في هذه الوظيفة الأساسية عواقبه كارثية. وكما قال أبوالعلاء المعري:

وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا 

               عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ