إذا ما تفحصنا سير الأعلام والمبدعين في التاريخ القديم، ومنه التاريخ الإسلامي، لوجدنا أن الكثير من الفلاسفة والأطباء والحكماء عشقوا الموسيقى والفنون، بل وألّفوا فيها وعالجوا مواطنيهم بها.
وفي عصرنا الحاضر، يعد الطبيب اليمني «نزار محمد عبده غانم»، نموذجاً للطبيب الجراح الذي جعل مبضع الجراحة يعانق وتر العود، من خلال عمله كطبيب، واهتمامه في الوقت نفسه بالشعر والأدب والموسيقى والتلحين، الذي وصل إلى درجة العشق والهيام.
وهو من ناحية أخرى، يشكل نموذجاً للمثقف العضوي المرتبط بقضايا وطنه اليمني والعربي المختلفة بوعي، ونموذجاً للإنسان اليمني الذي تغرب وتشتت جغرافياً، وشرب من أكثر من نبع، فصار كالجسر الرابط بين وطنه الأم وأوطان أخرى.
والسؤال الذي يطرح نفسه، بعد هذه المقدمة، هو من أين للدكتور غانم كل هذا؟ هذا ما سنتعرف إليه من خلال هذه المادة عن سيرته الحافلة بالدأب والاجتهاد، والتنقلات والومضات الإنسانية الجميلة والأعمال التطوعية.
يقال إن «ابن الوز عوام»، وهذا ينطبق على صاحبنا، لأنه نتاج والدين عرفا بسيرتهما الوطنية الحميدة، وانشغالاتهما المعرفية العديدة. فمن جهة، الأب هو النجل الأصغر للأديب والفنان والأكاديمي والإداري المعروف «محمد عبده غانم»، الذي ولد في عدن سنة 1912، وتوفي ودفن في صنعاء سنة 1994، وصنف كأول مواطن من شبه الجزيرة العربية يتخرج في جامعة بيروت الأمريكية سنة 1936، وأول بروفسور يمني، وشغل مناصب كثيرة، منها : وكيل ومدير معارف عدن من 1957 إلى 1963، ورئيس مجلس إدارة ميناء عدن من 1967 إلى 1969، ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة الخرطوم من 1974 إلى 1977، والمستشار الثقافي بسفارة اليمن في دولة الإمارات من 1980 إلى 1984.
وكتب كلمات أول أربع أغنيات عدنية من بين 50 أغنية ألفها وغناها أعلام الغناء اليمني، وأصدر أكثر من 20 كتاباً، وتم منحه العديد من الأوسمة، ومنها وسام من درجة قائد من الملكة إليزابيث الثانية، نظير خدماته في حقل التعليم.
أما لجهة الأم، فهو ابن السيدة منيرة محمد علي لقمان، إحدى سيدات عدن الفاضلات المتعلمات، من نسل عائلة لقمان المعروفة، ذات البصمات الخالدة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً وصحافياً في تاريخ عدن. فوالدها (جد المترجم له لأمه)، هو المحامي والرائد الأول للصحافة المستقلة في عدن وجنوب الجزيرة العربية، ومؤسس صحيفة «فتاة الجزيرة» سنة 1940، و«أيدن كرونكل» الإنجليزية سنة 1953، ومؤسس «نادي الإصلاح» بكريتر عام 1929، و«نادي الإصلاح العربي» بالتواهي عام 1930، الأستاذ محمد علي لقمان (ولد في عدن في 1898، وتوفي بمكة المكرمة أثناء تأديته فريضة الحج عام 1966).
ولهذا، فإن نزار غانم ولد وهو يحمل من والديه جينات الإبداع والتألق.. هذا ناهيك عن تأثره بأشقائه (الطبيب قيس غانم والمهندس شهاب غانم والمحامي عصام غانم)، وشقيقتيه (عزة وسوسن)، الأكبر سناً، وبخاله الشاعر علي محمد علي لقمان، في الاستنارة والانتصار لقيم العلم والحق والخير والجمال والسلام والحرية والعدالة.
فضلاً عن تأثره بما قرأ واستمع إليه منذ صغره في مكتبة والده العامرة بالأسطوانات والمطبوعات الورقية. وهكذا، لم يكن غريباً أن يصبح طبيباً بارعاً، ومثقفاً ملماً، وموسيقياً مبدعاً، وشاعراً مرهفاً، وباحثاً رصيناً، وناشطاً حقوقياً، وصاحب تجربة إنسانية واجتماعية رائدة، وفوق كل هذا مشروعاً متمماً لمشروع والده التربوي التنويري.
في حوار أجرته معه صحيفة إماراتية، في 24-10-2013، باح غانم بالكثير من أسرار طفولته وشبابه، فأخبرنا أنه عاش طفولة جميلة، وكان يرى والده يستريح في «بلكونة» المنزل، ويمسك بآلة العود، ويعزف عليها ويغني أنغاماً شجية، مضيفاً أن مرحلة صباه وشبابه كانت مختلفة، لأنها تميزت بنكبات وأحداث سياسية واجتماعية شهدتها عدن وباقي جنوبي اليمن، على إثر مغادرة المستعمر البريطاني، واستلام الثوار للسلطة، وشروعهم في التنافس على السلطة، وما تلا ذلك من انكسارات ومذابح وإرهاب وسيطرة سوفييتية على البلاد، وضياع الاستقلال، بحسب تعبيره.
واستطرد قائلاً ما مفاده أنه غادرت العائلة كلها عدن «إلى حيث لا وكر دائم، فمن عدن إلى لندن إلى بيروت إلى الخرطوم، لإكمال الدراسة الإعدادية والثانوية، بكل ما صاحب ذلك من خبرات صادمة ومعضلات دراسية، مثل تعلم لغة ثالثة، هي الفرنسية، وتعلم الرياضيات الحديثة. إضافة إلى التمزق الوجداني، فلا ألبث أن أكوّن صداقات في قطر ما، وأجيد لهجته، حتى أجد نفسي أرحل إلى حيث علي أن أبدأ من الصفر».
غير أن ما شهدته حياته المبكرة من تنقلات وأسفار، كانت بمثابة معين استقى منه ثقافة لا تقدر بثمن، ومواهب لجهة التفكير والتعبير والنقد.
ولد نزار محمد عبده غانم بمدينة عدن في 7 أكتوبر 1958، والتحق فيها بالتعليم الابتدائي سنة 1965، لكنه أكمله بلندن سنة 1969، ثم درس المرحلة الإعدادية بمدرسة الجامعة الوطنية بمصيف عاليه اللبناني، التي انتقل منها إلى المعهد الديني بالكويت، وأكمل المرحلة الثانوية في كلية كمبوني الكاثوليكية الإيطالية بالخرطوم، التي انتقل إليها في عام 1973 مع والديه، حيث عمل والده هناك أستاذاً بكلية الآداب في جامعة الخرطوم من عام 1974 إلى 1977. وفي السودان، تماهى نزار مع كل ما هو سوداني، من طباع وعادات وتقاليد، إبان سنوات إقامته هناك، من 1973 وحتى 1984، التي شهدت تخرجه في كلية الطب بجامعة الخرطوم.
وإبان دراسته الثانوية والجامعية في الخرطوم، استفاد كثيراً من أجوائهما، فانشغل بأنشطة المجتمع المدني، وفعاليات منتديات الخرطوم الثقافية والاجتماعية والفنية والأكاديمية، دون الانغماس في السياسة، واهتم بإصدار صحف الحائط، متجاهلاً الرياضة لصالح العمل الكشفي، وعزز ثقافته العامة بالاستماع إلى محطات الإذاعة، مستقصياً بألم أحداث السودان والعالم الدامية، واستهوته مشاهدة أفلام السينما المصرية، وروائع هوليوود.. وعشق متابعة المسرحيات الجامعية، وتعلم الغناء والعزف على العود.
لم يكتفِ صاحبنا بمناشط جامعته، وإنما سعى أيضاً إلى نشر قصائده في «مجلة الشباب والرياضة» السودانية عام 1977، واشترك في مسابقتها الشعرية، ففاز بالجائزة الأولى..ونشر في الصحافة اليومية في نهاية السبعينيات، سلسلة مقالات تاريخية وأدبية عن الشخصيات اليمنية التي عاشت في السودان، والشخصيات السودانية التي قدمت إبداعاً في اليمن بشطريه، تحت عنوان «بين صنعاء والخرطوم»، التي طورها لاحقاً وأصدرها في مجلد ضخم، بعنوان «جسر الوجدان بين اليمن والسودان». لقد عشق الرجل السودان الذي احتضنه في سنوات شبابه، ومنحه جنسيته في عام 2009.
وبعد تخرجه طبيباً في جامعة الخرطوم، أمضى فترة الامتياز والتدريب بمستشفى راشد بدبي، ليعود بعدها إلى اليمن سنة 1985، حيث تم تعيينه في السلاح الطبي لجيش اليمن الشمالي، برتبة ملازم أول. وحول السنوات الأربع التي قضاها هناك، قال في حوار مع أحد المواقع، إنها كانت أربعة أعوام لم تخلُ من المعاناة، بحسب تعبيره. ولعل تلك المعاناة حفزته آنذاك على مواصلة دراسته في مجال الطب، ونجاحه في الحصول على درجة الماجستير في الطب المهني سنة 1989، من جامعة لندن، قبل أن يحصل على شهادات عليا أخرى.
مارس نزار غانم مهنة الطب في عدن، من خلال عيادة أسسها سنة 1992، لمعالجة المبدعين وأسرهم مجاناً، ثم أسس في 1996 مركزاً صحياً ثقافياً، لتقديم الرعاية الصحية الأولية للمبدعين بنظام تأمين رمزي، مع تقديم دروس في الفنون الجميلة المتنوعة. واستمر نشطاً في هذا المركز حتى عام 2008، حينما تحولت إلى «مؤسسة شركاء المستقبل للتنمية»، ككيان أهلي معني بحقوق الإنسان والشباب والمرأة، والرعاية الصحية النفسية، وتعليم الموسيقى.
كما قام غانم بتدريس مادة الطب المهني في جامعة صنعاء حتى عام 2002، وعمل مستشاراً لوزير الصحة لشؤون العمل التطوعي، ثم مستشاراً لوزير الصحة لشؤون السلامة المهنية، وأرسلته بلاده إلى سفارتها في الخرطوم، ليعمل ملحقاً ثقافياً بها، من 2002 إلى 2006. ثم عاد إلى صنعاء، ونجح في الحصول على درجة الدكتوراه عن أطروحة في الوسواس القهري عام 2011، ليغادر بعدها اليمن إلى السودان للمرة الثالثة الأخيرة، لتدريس طب البيئة والسلامة المهنية بجامعة الطيب. ومع اندلاع القتال مؤخراً في السودان، واستمرار الحرب في اليمن، فقد مصادر الرزق في البلدين، فوصل القاهرة مع أسرته كلاجئ.