في القنوات الإخبارية، وفي مراكز الأخبار بالقنوات العامة، هناك قسم يطلق عليه «قسم المراسلين وإنتاج المقابلات». من مهام هذا القسم تكوين قاعدة من المحللين، للجوء إليهم عند وقوع الحروب والأزمات والأحداث الكبرى وغيرها. الأسماء التي تضمها هذه القاعدة تخضع لمواصفات معينة، أهمها أن تكون أفكار أصحابها وتوجهاتهم وميولهم السياسية والفكرية متفقة مع توجهات هذه القنوات وأهدافها، والأغراض التي أنشئت من أجلها، ومع سياسة وتوجهات الدول، التي تمثلها أو تنطلق منها، مهما كانت مساحة الحرية، التي تدعي القناة أنها توفرها لمن يظهر على شاشتها، مع الوضع في الاعتبار أن بعض القنوات تتعمد استضافة محللين مخالفين لتوجهاتها سعياً إلى مزيد من الإثارة.
هذه معلومة لا تخفى على الكثيرين، لكن البعض يتغافلون عنها، لأن رأي المحلل الذي يستمعون إليه، ويأنسون له يتفق مع رأيهم أو يدغدغ عواطفهم، ويقترب من أمنياتهم، رغم أن هذا الرأي قد لا يتسق مع ما يحدث على الأرض. كما أن العاملين في هذه الأقسام يتفقون مع المحللين، الذين يستضيفونهم على الخطوط الرئيسية، التي يجب أن يلتزموا بها، وعلى الخطوط الحمراء، التي يجب ألا يتجاوزوها قبل أن يضعوهم على الهواء في فترات البث المباشر، أو قبل أن يبدأ التسجيل في البرامج غير المباشرة، والذين شاهدوا المقاطع، التي تسربت من كواليس بعض القنوات، التي ترفع شعار الرأي والرأي الآخر، للاتفاقات التي كانت تتم بين المذيعين والمحللين، عندما يكون المذيع والمحلل Off Air وفقاً للمصطلح التلفزيوني، فوجئوا بهذه الحوارات، وما كان يتم الاتفاق عليه بين المذيع والمحلل من توجيه دفة الحوار إلى ناحية ما، وتكثيف الهجوم على بعض الدول، وتخفيفه عن بعضها سعياً إلى «تبييض صفحة المؤسسة»، حسب تعبير المذيع، وهي مقاطع متاحة على منصة «يوتيوب» لمن يريد التأكد من هذا.
على خلفية هذه الآلية، التي تعمل من خلالها القنوات التلفزيونية، يجب أن نقيّم أداء المحللين، الذين نراهم على الشاشة كل يوم، خاصة السياسيين منهم والعسكريين، الذين يحملون رتباً عسكرية عالية، يُفترَض أن تمنحهم نوعاً من المصداقية، ولأن البوصلة عند وقوع الأحداث غالباً ما تكون متعددة الاتجاهات، فإن كل قناة تبحث عن المحلل، الذي يتفق مع اتجاه بوصلتها، والذي يمكن أن تدفعه إلى المزيد من الحماس، وتشجعه على الذهاب إلى الحد الأقصى، الذي تريد أن تأخذ المشاهد إليه، ولهذا برز محللون صارت أسماؤهم تُتداول بين جمهور المشاهدين، الذين صاروا يهتفون لهم، مثلما تهتف جماهير كرة القدم لنجومها المفضلين، طالبين منهم المزيد من التحليل، حتى لو كان هذا التحليل لا يخضع للمنطق والقواعد المتعارف عليها في المدارس المعروفة، وأصبحت مقاطع تحليلاتهم يتم تداول في وسائط التواصل الاجتماعي، وغدت لهم شعارات تلصق على زجاج السيارات في بعض الدول العربية.
ولأن سوق التحليلات أصبحت مغرية نظراً لما تلقاه من جماهيرية، ولما توفره هذه الجماهيرية من دخل مادي ومكانة اجتماعية، فقد نشط على وسائط التواصل الاجتماعي بعض المحللين، الذين كانت بداياتهم في القنوات الإذاعية والتلفزيونية، وأصبح لهؤلاء المحللين قنوات خاصة على يوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي، كما أصبح لهم جمهور من المؤيدين يمطرهم باللايكات والدعم المادي والتعليقات، التي جعلت آراءهم ترقى إلى درجة الحقائق المسلم بها، وجعلت توقعاتهم أموراً واقعة لا محالة، حتى لو لم تقع فعلاً، لأن ذاكرة المحبين غالباً ما تكون مثل ذاكرة سمكة أو ذبابة، ولأن تتابع الأحداث وكثرتها غالباً ما تدفع هذه التوقعات إلى زاوية النسيان، لتحل محلها توقعات أخرى، تفرضها أحداث جديدة تجعل أذهان هؤلاء المحللين متحفزة للمزيد من التحليل، وتجعل جمهورهم متعطشاً للمزيد من التوقعات، التي تحيي الآمال في النفوس، وتجعلها تشعر بالنشوة والفرح.
صعود نجم المحللين وهبوطه مرتبط بدرجة سخونة الأحداث، ولأن الأحداث هذه الأيام ساخنة جداً في محيطنا العربي، فإن على المحللين أن يضبطوا بوصلتهم على الاتجاه المناسب للجمهور كي تضبط القنوات بوصلتها على من تختاره منهم، ونضبط نحن بوصلتنا على ما نختاره من قنوات.