فور وقوع هجمات المقاومة الفلسطينية على القوات والمستوطنات وبعض المدن الإسرائيلية في السابع من أكتوبر الماضي، سارع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو وأركان حكومته وقيادات جيشه إلى بدء عدوانهم الدموي على قطاع غزة، وحددوا أهدافه في ثلاثة: القضاء تماماً ونهائياً على حركة حماس، وإعادة كل المحتجزين الإسرائيليين لديها ولدى الفصائل الفلسطينية من دون أي تفاوض أو تنازل، والقضاء على احتمال لأن يصبح قطاع غزة مهدداً لأمن إسرائيل في الحاضر والمستقبل.
ومع دخول الحرب شهرها الرابع، بدا واضحاً أن هذه الأهداف الثلاثة كانت محض أمنيات ورغبات نظرية و«نفسية» من نخبة الحكم الإسرائيلية ورئيس وزرائها، وليست أهدافاً واقعية يمكن تحقيقها والوصول إليها. فبعد كل هذه الأيام التي تعد الأطول في كل حروب إسرائيل منذ حربها عام 1948، وبعد قتل جيشها ما يزيد عن 25 ألف فلسطيني وفقدان نحو 8000 آخرين وجرح ما يفوق 63 ألف شخص، وتدميرها الكامل لنحو 65 % من مساكن القطاع وبنيته التحتية، وتحويله إلى المكان الأشد بؤساً والأخطر في العالم حالياً وكل تاريخه المعاصر، يبدو واضحاً الفشل الإسرائيلي الذريع في تحقيق تلك الأهداف.
فبالرغم من تغيير الهدف الإسرائيلي الأول من القضاء التام والنهائي على حركة حماس، إلى تحطيم البنية التحتية والعسكرية لها، فإن كل الوقائع الميدانية سواء في غزة أو في الأراضي الإسرائيلية، وكذلك التقديرات المعلنة لمختلف المسؤولين الأمريكيين الكبار وعدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين السابقين، تؤكد كلها احتفاظ الفصائل الفلسطينية في غزة، وفي مقدمها حماس، بالقدر المؤثر والفعال من قدراتها العسكرية. أما الهدف الثاني، وهو إعادة كل المحتجزين الإسرائيليين من دون أي تفاوض أو تنازل، فقد تأكد تماماً فشله، فلم يفرج عن عدد كبير من هؤلاء سوى بالتفاوض غير المباشر بين الطرفين بوساطة مصرية قطرية أمريكية. عدا ذلك، باءت كل محاولات تحرير المحتجزين بالقوة المسلحة بالفشل التام، بل قيام الجيش الإسرائيلي بقتل عديد منهم أثناء هذه المحاولات. وزاد الطين بلة أن طائرات الجيش الإسرائيلي قتلت في قصفها الجنوني لقطاع غزة، عدداً آخر من هؤلاء المحتجزين.
وبدا واضحاً بالطبع في ظل الإخفاق التام في تحقيق الهدفين السابقين، أن الهدف الثالث، وهو القضاء على أي احتمال لأن يصبح قطاع غزة مهدداً لأمن إسرائيل في الحاضر والمستقبل، ليس له أي مكان في الواقع العملي، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية - والمساندة أمريكياً – في أيام الحرب الأولى للحديث عما سموه «اليوم التالي» في غزة بعد تحقيق الهدفين الأولين، وهو ما توقف تماماً بعد التيقن من الفشل التام في الوصول لهما.
أصيبت، في ظل كل الإخفاقات الهائلة والمترابطة، النخبة الإسرائيلية الحاكمة وفي مقدمتها رئيس الوزراء بحالة من الارتباك الهائل وفقدان بوصلة القرارات السليمة المتناسبة مع هذا الوضع المعقد. وبدلاً من إعادة تقدير الموقف واتخاذ ما يناسبه من قرارات «رشيدة»، لجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي لسياسة «الصعود إلى الهاوية». وسار هذا الصعود في اتجاهين: الأول تجاه الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها، حيث رفض كل عروضها ومطالبها الساعية لتحقيق المصالح الإسرائيلية بقدر أكبر من العقلانية، وأصبحت أخبار الخلاف الحاد بين نتانياهو والرئيس بايدن الأكثر انتشاراً في وسائل الإعلام العالمية.
وانصرف الاتجاه الثاني إلى مصر والسعي لاستفزازها، سواء تمثل هذا في ادعاءات وأكاذيب فريق الدفاع الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية بمسؤولية مصر عن إغلاق معبر رفح أمام المساعدات لقطاع غزة، وهو ما ردت عليه مصر بحسم ووضوح، أو في حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي عن إعادة احتلال جيشه لمحور صلاح الدين الذي يقع في غزة ويفصلها عن الحدود المصرية، وهو ما يخضع لاتفاقيات مكتوبة بين الطرفين، وحذرت القاهرة بشدة من المساس بها.
الفشل التام في تحقيق الأهداف الأصلية المتوهمة من العدوان على غزة، هو الذي يكمن اليوم وراء «الصعود إلى الهاوية» الذي يتحه إليه رئيس وزراء إسرائيل، والذي يهدد وبشدة ليس فقط المصالح الجوهرية لدولته، بل وأيضاً السلم والأمن في منطقتنا وفي العالم كله.