يوصف المسرح بـ «أبو الفنون» منذ زمن الإغريق والرومان بسبب قدرته على الجمع والمؤالفة بين عناصر فنية متعددة، وبالتالي فهو الأقدر على التعبير من سائر الفنون الأخرى، وهو الأداة الأكثر فعالية التي استخدمها فقهاء اللغة والنحاة وحتى القضاة لنقل أفكارهم وتجاربهم ومعارفهم إلى الخاصة والعامة. إلى ذلك يعتبر المسرح الجنس الأدبي الأحدث نسبياً مقارنة بالشعر في المجتمعات العربية.
عرفت منطقة الخليج العربي المسرح منذ عام 1925 حينما عرضت في البحرين مسرحية «القاضي بأمر الله» من فوق خشبة مسرح مدرسة الهداية الخليفية. غير أن الكويت سبقت شقيقاتها الخليجيات في البروز كمعقل للفنون المسرحية في الخليج منذ ستينات القرن العشرين، بسبب الدعم الرسمي غير المحدود وتبني المواهب الفنية وتشجيعها؛ لذا برزت في الكويت مجموعة من فناني المسرح الكبار ممن تألقوا في أعمالهم وقدموا مسرحيات كوميدية وتراجيدية ووطنية وتاريخية محفورة في وجدان الجمهور.
ومن المسرح شقّ هؤلاء الرواد طريقهم نحو الدراما الإذاعية والتلفزيونية فأبلوا أيضاً بلاء حسناً. أحد هؤلاء العظام هو الفنان القدير إبراهيم الصلال، صاحب الأعمال المسرحية والدرامية الخالدة والنجاحات الساحقة والأدوار المتميزة والأداء التلقائي المقرون بخفة الظل، والذي يعد أفضل من جسد شخصية الرجل كبير السن من الرعيل الأول، من أولئك الذين ظلوا محتفظين ببساطتهم وطيبتهم وتلقائيتهم ومفرداتهم وعاداتهم الأصيلة رغم كل ما طرأ على حياة مجتمعاتنا من تغيرات حضارية.
ويعتبر الصلال من فناني المسرح والدراما الكويتيين الكبار ممن عاصروا الحركة المسرحية والدرامية في الكويت منذ بدايتها، ومن الجيل الذي تتلمذ على يد الفنان المصري الكبير زكي طليمات الذي استقدمته الكويت في ستينات القرن العشرين وكلفته بتأسيس الفن المسرحي في البلاد على أسس أكاديمية وعلمية.
ولد «إبراهيم بن مزعل بن هزاع الصلال المطيري» بقرية «الفنطاس» الكويتية في 15 مارس 1940، لأب ينتمي إلى قبيلة مطير المعروفة من فخذ الصهبة، وأم من عائلة الحقان. وقد أخبرنا الصلال في حوار مع تلفزيون الكويت أن والده «الملا مزعل بن هزاع الصلال» كان يعمل ويقيم في العاصمة الكويت، لكن تم نقله سنة 1940 إلى قرية الفنطاس ليعمل هناك إماماً للمسجد وقاضياً وموظفاً في البلدية ومسؤولاً عن توزيع الأراضي في آن واحد؛ لذا كانت ولادته ونشأته ودراسته الابتدائية والإعدادية في الفنطاس التي ترعرع في بيئتها الساحلية الزراعية وتشرب الفن من أهلها المحبين للطرب والفنون منذ نعومة أظافره وتعرف فيها على زميله الفنان سعد الفرج.
في عام 1955 عاد مع والده للإقامة بمدينة الكويت فالتحق بمدرسة صلاح الدين النموذجية التي أنهى بها تعليمه. اضطر الصلال إلى أن يدخل سوق العمل مبكراً، فتنقل في وظائف عدة منها عمله ساعياً بوزارة الأوقاف، وهو الأمر الذي ساهم في احتكاكه بنماذج متنوعة من المراجعين ما أكسبه معرفة همومهم ومشاكلهم التي استثمرها لاحقاً في أعماله. ومن وظائفه الأخرى في مقتبل حياته، عمله في الجيش الكويتي وفي ديوان الموظفين. وبالمثل، تزوج الصلال مبكراً، حينما كان في سن التاسعة عشرة، من ابنة عمه التي أنجبت له ستة من الأبناء، أربعة منهم من الذكور وهم: خالد وعبدالناصر وأحمد ومزعل.
بدأ مشواره الفني في عام 1952 من خلال المسرح المدرسي كمعظم زملائه. ولحسن حظه فإن والده كان من المتنورين، فدعمه وشجعه ولم يعترض على شغفه بالتمثيل حينما أبلغوه بذلك، وإنما رد بقوله إن المسرح رسالة، وإن الممثل يستطيع أن يتبنى من خلاله قضية إنْ أحسن الاختيار.
وهكذا شارك وقتذاك في مسرحيات تاريخية باللغة الفصحى مثل «إسلام عمر» و«حرب البسوس». وما بين عامي 1954 و 1956 نشط مسرحياً من خلال ما كانت تقدمه الأندية الصيفية آنذاك من أعمال. وفي عام 1959 قرر أن يصقل مواهبه الفنية ويبرزها فالتحق بـ «فرقة المسرح الشعبي»، حيث تتلمذ على أيدي المخرج عبدالرحمن الضويحي (1934 ــ 1996) والممثل والمخرج عبدالله خريبط (1934 ــ 1997) والرائد المسرحي الكبير محمد النشمي (1929 ــ 1984). والمعروف أن فرقة المسرح الشعبي أعلن إشهارها في 10 مايو 1957 بجهود مؤسسيها محمد النشمي وعبدالله خريبط وعبدالله حسين وغيرهم ممن كان يدعمهم المرحوم حمد عيسى الرجيب الذي يوصف في الأدبيات الكويتية برائد الحركة المسرحية ورائد الرعاية الاجتماعية ومكتشف المواهب الفنية. ومما يذكر أن الصلال ترأس مجلس إدارة المسرح الشعبي ما بين عامي 1966 و 2012.
والصلال لئن شارك في بدايات مشواره في أعمال مسرحية ذات قيمة فنية، غير أن العمل الذي صعد من خلاله إلى عالم النجومية والشهرة الحقيقية تمثل في مسرحية «سكانه مرته» الاجتماعية الكوميدية التي عرضت في سنة 1964 من إخراج عبدالرحمن الضويحي وتمثيل إبراهيم الصلال وعبدالعزيز النمش ومريم الغضبان ومريم الصالح وطيبة الفرج وأحمد الصالح وغيرهم، والتي تقمص فيها الصلال دور الخال «بوصالح»، فأجاد بسبب صوته المميز وحضوره القوي ونظراته الحادة. بعد ذلك توالت أعماله المسرحية فشارك في الفترة ما بين عامي 1964 و1969 في تسع مسرحيات هي: «غلط يا ناس»، «الجنون فنون»، «كازينو أم عنبر»، «يمهل ولا يهمل»، «حرامي آخر موديل»، «هدوا المسلسل»، «انتخبوني»، «اصبر وشوف» و«صورة». وفي فترة تألقه هذه، منحته الدولة بعثة في سنة 1965 إلى جامعة ويستمنستر البريطانية لدراسة إدارة الأعمال، فلم يمنعه انغماسه في العمل المسرحي من الذهاب إلى لندن والالتحاق هناك بأخيه هزاع الذي كان وقتذاك يدرس العلوم الشرطية، ليتخرج في عام 1968 مكللاً بدبلوم في الإدارة والسكرتاريا، مع تجربة ثرية في مشاهدة الأعمال المسرحية العالمية.
وفي عقد السبعينات واصل رحلته المسرحية الناجحة فقدم عشر مسرحيات أخرى شملت: «العلامة هدهد»، «كاوبوي في الدبدبة»، «رزنامة»، «مدير طرطور»، «بم 1 2 3 4»، «إبراهيم الثالث»، «فوضى»، «حفلة على الخازوق»، «عريس لبنت السلطان»، و«عمارة رقم 20».
وحينما جاء عقد الثمانينات، وكان قد أصبح نجماً كبيراً ذا خبرة ومكانة، واصل تألقه من خلال المسرحيات التالية: للصبر حدود، درس خصوصي، المهرج، فرسان المناخ، صبوحة، حامي الديار، فرحة أمة، الأوانس، هذا سيفوه، كماشة، هالو بانكوك. أما في عقد التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الجديدة، فيلاحظ أن أعماله المسرحية قلت، بدليل أنه لم يشارك إلا في ست مسرحيات هي: «الثمن»، «عاصفة الصحراء»، «الحر منة»، «جنون البشر»، و«بنانوة الفريج». ويعتقد أن السبب هو تراجع الوهج المسرحي والفني في الكويت في حقبة ما بعد التحرير من جهة، ومشاكل الصلال الصحية من جهة ثانية، ووفاة معظم فرسان المسرح الكويتي الكبار من جهة ثالثة.
إلى ما سبق، حقق الصلال نجاحاً موازياً على صعيد الأعمال التلفزيونية، بدءاً من عمله الأول «المصير» في سنة 1967 وانتهاء بمسلسل «الجسر» في عام 2018، ومروراً بنحو سبعين مسلسلاً لعل أهمها: «أجلح وأملح» (1970)، «الأقدار» (1977)، «مذكرات جحا» (1979)، «خرج ولم يعد» (1980)، «درس خصوصي» (1981)، ضيعة أم سالم (1985)، «أبوصالح يريد حلاً» (1987)، «العائلة» (1990)، «بومرزوق» (1992)، «الناس بيزات» (1993)، «لن أمشي طريق الأمس» (1995) «عائلة بورويشد» (1998)، «خليل في مهب الريح» (1999)، «سوق المقاصيص» (2000)، «عائلة خاصة جداً» (2001)، «جرح الزمن» (2001)، «ثمن عمري» (2002)، «فريج صويلح» (2005)، «عتيج الصوف» (2006)، «ابن النجار» (2006)، «عيال الفقر» (2007)، «الأخ صالحة» (2007)، «سوق واقف» (2009)، «إخوان مريم» (2010)، «البيت بيت أبونا» (2013)، و«المعزب» (2014).
كما أنه شارك في 4 أوبريتات هي: «بساط الفقر» (1979)، «سندريلا» (1984)، «جسر المحبة» (1987)، وأوبريت «خليجي 16» (2016)، وقام بإخراج ثلاثة من أعماله المسرحية وهي: «العلامة هدهد»، و«مدير طرطور» و«في قلب قنديل».
بُعيد الغزو العراقي للكويت في عام 1990، ترك بلاده مع غيره وانتقل إلى مدينة حائل السعودية لوجود أقارب له فيها، ومنها انتقل إلى الرياض، حيث عاش في ضيافة الحكومة السعودية وتحت رعاية السفارة الكويتية مع تواصله مع حكومة الكويت الشرعية في الطائف، إلى أن انجلت الغيمة وعاد مع العائدين.
ومما يجدر بنا ذكره أن فناننا أعلن في عام 2014 بعد مشاركته في مسلسل «المعزب» اعتزاله الفن، مبرراً قراره بحاجته للراحة بعد تدهور صحته، وإنْ كان السبب الحقيقي هو ما أفصح عنه لاحقاً في مقابلة صحفية أجرتها معه جريدة «الرأي» (8/4/2023) من أنه لا يوجد ما يغريه بالعودة إلى التمثيل، وأنه سوف يعود حينما يتوافر النص الجيد والمخرج الجيد والممثلون الجيدون، مؤكداً أن «الدراما الكويتية تحتاج إلى (نفضة عدلة) لتعيدها إلى مسارها الصحيح، خصوصاً وأن بداياتنا في الفن كانت حلوة وقوية».
غير أن الرجل تراجع عن قراره بفضل تدخل وزير الإعلام آنذاك الشيخ سلمان الصباح ومحاولات إقناع بذلها زميله المخرج والمؤلف والممثل عبدالعزيز المسلم، حيث أثمرت جهود الرجلين عن عودة الصلال إلى الدراما التلفزيونية من خلال تقديم دور الأب الذي يعاني من مشاكل مع ابنه في مسلسل «الليوان» (2015)، ثم من خلال المسلسل الاجتماعي الإنساني «الجسر» في عام 2018، فمسلسل «العاصفة» الاجتماعي البوليسي في عام 2019، وفيه أدى دور الأب الذي يواجه الكثير من المتاعب والصعاب في حياته، ومحيطه الاجتماعي، فيحاول لمّ شمل أسرته، والمحافظة على تماسكها في وجه تقلبات الزمن.
وبعد الانتهاء من تصوير مشاهد مسلسل «العاصفة»، عاد الصلال ليشتكي من أحوال الفن، مهدداً بالتوقف عن المشاركة في أي أعمال جديدة «لأني لا أريد أن تكون نقطة سوداء في مسيرتي الطويلة». إذ صرح لصحيفة «الرأي» (21/8/2019) قائلاً إن الأوضاع الفنية في الكويت متردية من ناحية النص والإخراج والأداء أيضاً، وإن الزمن الجميل انتهى ولن يعود، واصفاً ما يتم تقديمه من أعمال بأنها «خرابيط وكلام فاضي»، و«تراجيديا أو كوميديا فاشلة لا تليق..»، ومشيراً إلى الوضع الفني بأنه «هشك بشك»، وأن ما يطرح فيه هزيل.
في يونيو عام 2017 حصل الصلال على جائزة «الشارقة للإبداع المسرحي العربي» في دورتها الحادية عشرة، تقديراً لمسيرته في الإذاعة والتلفزيون والمسرح على مدى ستة عقود، ومساهمته في المشهد المسرحي المعاصر، وعمله الدؤوب على ترسيخ وتطوير تجربة الفن المسرحي في الخليج، واعترافاً بمكانته كأحد رموز التأسيس والنهوض المسرحي. علماً بأن الجائزة تأسست عام 2007 بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لتمنح لمبدعي المسرح العربي في تخصصاتهم. وقتها عبر الصلال عن سعادته بالحصول على الجائزة واعتبرها وساماً على صدره، وتكريماً للكويت باعتبارها رائدة في مجالات الثقافة والفنون. وفي سبتمبر 2017 دخل فناننا العناية المركزة بمستشفى الأحمدي بعد إصابته بجلطة دماغية، لكنه نجا وشفي على يد الأطباء.
بقي أن نشير إلى أن الصلال ــ طبقاً لما قاله لصحيفة «الجريدة» الكويتية (15/8/2022) ــ يقضي معظم أوقاته ما بين ممارسة هواياته في قراءة الكتب ومشاهدة الأعمال الدرامية والسينمائية العالمية دون العربية، وسماع أغنيات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وشادي الخليج القديمة، ومجالسة أحفاده والخروج معهم إلى الأماكن العامة.