جرت العادة أن يكون عيد الاستقلال أو اليوم الوطني في أي دولة مقترناً بالفرح والاحتفالات البهيجة والتذكير بإنجازات الوطن، خلال السنوات التالية لخروج المستعمر، واستعادة الحرية والسيادة الوطنية، لكن الأمر مختلف في ميانمار (بورما سابقاً)، التي صادف أن يكون يوم الرابع من شهر يناير الجاري الذكرى الـ 76 لاستقلالها عن بريطانيا، التي دام حكمها لهذه البلاد كمقاطعة من مقاطعات الهند البريطانية من عام 1824 إلى عام 1948، ذلك أن ميانمار لم تهنأ باستقلالها وحريتها سوى فترة قصيرة جداً، امتدت من عام 1948 إلى عام 1962، وهي الفترة التي تولت قيادتها حكومات ديمقراطية مدنية منتخبة، برئاسة السياسي القومي «أو نو»، أما الفترات التالية (باستثناء فترة قصيرة) فقد شهدت انقلابات عسكرية ابتداء من انقلاب 1962، بقيادة قائد الجيش الجنرال «ني وين»، الذي أرسى حكماً دكتاتورياً أبوياً منيعاً ونظاماً اشتراكياً قاتماً، ورسخ نفوذ العسكر وتدخلهم في مختلف مناحي الحياة على مدى 12 سنة، الأمر الذي حرم البلاد والعباد من الحرية والنهضة والتقدم والانفتاح على العالم، وقوض كل ما تركه المستعمر البريطاني خلفه من نظم إدارية ومؤسسات مدنية وهياكل للافتصاد الحر، وانتهاء بانقلاب الأول من فبراير 2021، الذي ستحل قريباً ذكراه الرابعة.

ولأن الاستقلال فقد سحره أضحت الملايين من شعب ميانمار تستقبل عيد الاستقلال بالحزن بدلاً من الفرح، لأن جنرلات جيشهم أفرغوا هذه المناسبة من محتواها، ولم يقدموا لهم سوى المرارة والحرمان والقمع والتسلط، ولا نبالغ لو قلنا إن الكثيرين من هؤلاء باتوا يحنون إلى زمن ما قبل الاستقلال حينما كانت حرياتهم الشخصية وأمورهم المعيشية وقنوات التعبير عن آرائهم ــ على الأقل ــ مصونة، بل وينظرون إلى ما يجري في الهند، التي كانوا يوماً ما جزءاً إدارياً منها بنظرة الغبطة والتحسر.

وهكذا نجد أن المحتفل الوحيد بالمناسبة هم جنرالات الطغمة العسكرية الحاكمة ورموز «مجلس إدارة الدولة» المغتصب للسلطة، وأعوانهما القلة ممن باتوا يرددون شعارات متكررة كل عام حول «استقرار الدولة وتعزيز النظام العام»، و«القضاء على الإرهاب والجماعات المتمردة»، و«إنقاذ وحدة البلاد من المتمردين العرقيين والشيوعيين والمجاهدين قبل إجراء أي انتخابات تعددية حرة».

وبعبارة أخرى يكرر جنرلات الجيش هذه الشعارات كل عام، محاولين إقناع الميانماريين بأن أحوال بلدهم على ما يرام وأن الخير قادم طالما أنهم يؤيدون جيش البلاد الساهر على الأمن والنظام، بينما الشواهد تقول غير ذلك، فالجيش الأسطورة، الذي يدين بتعليمه لأكاديمية عسكرية، أنشأه المستعمر البريطاني في الأربعينيات، ثم طوره الحكم المدني الديمقراطي في الخمسينيات، بات يتلقى ضربات يومية من ميليشيات متمردة وجماعات انفصالية منتشرة في مختلف أقاليم البلاد، وبالتالي فهو ليس في أفضل أحواله، ويعاني من الخسائر وإن قال خلاف ذلك.

ومن ناحية أخرى يعاني الاقتصاد من حالة ترهل ألقت بظلال قاتمة على مستويات المعيشة ومداخيل الأسر وموازنة الدولة ومخصصات التعليم والصحة.

وطبقاً لتقرير نشره صندوق النقد الدولي حول حالة الاقتصاد في ميانمار في عام 2023 فإن القوة الشرائية للأفراد والأسر ضعيفة، وبالتالي فإن الاستهلاك الداخلي محدود ولا يمكنه قيادة النمو، فيما أدت القيود المفروضة على الاستيراد إلى نقص المعروض من الكثير من السلع، وبالتالي ارتفاع أسعارها، ويضيف التقرير أن ميانمار تعاني من نقص خطير في الطاقة، وضعف في جذب الاستثمارات الخارجية، بسبب تعقيدات الحصول على تراخيص لمزاولة الأنشطة، وانخفاض مشهود في منتجات وأرباح القطاع الزراعي، بسبب الأعمال القتالية الدائرة في الأرياف بين الجيش والمتمردين، وفصائل المعارضة.

ويترافق كل هذا الوهن مع حالة غضب شعبية داخلية واحتجاجات وعقوبات من قبل الدوائر الإقليمية والعالمية لسببين، أولهما: عملية التطهير العرقي، التي يمارسها الجيش ضد الروهينغيا المسلمين المنتمين إلى ولاية أركان في غرب البلاد، وثانيهما: استمرار اعتقال زعيمة الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية وابنة بطل الاستقلال السيدة «أونغ سان سو شي»، منذ الأول من فبراير عام 2021 بتهمة أن نتائج انتخابات نوفمبر 2020 العامة، التي جعلتها شريكة في السلطة مزورة.