كان الشهر الماضي، من أصعب الأوقات في تاريخ تايوان، حيث حبس التايوانيون ومعهم بكين وواشنطن أنفاسهم انتظاراً لما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية في تايوان التي تعتبرها بكين إقليماً متمرداً يجب استعادته، بينما تدعم واشنطن مبدأ عدم المساس بوضعها الحالي، وترفض أي عملية صينية عسكرية لاستردادها بالقوة.
وكان سبب الترقب وحبس الأنفاس هو أن النتائج ستحدد مستقبل العلاقات بين بكين وتايبيه من جهة ومستقبل العلاقات بين بكين وواشنطن فيما خص تايوان من جهة أخرى، دعك مما سيترتب عليها من آثار استراتيجية عميقة على الجغرافيا السياسية لمنطقة المحيطين الهندي والهاديء.
أجريت الانتخابات في 13 يناير الماضي، بمشاركة 19.5 مليون ناخب يحق لهم التصويت من بين عدد السكان البالغ تعداده 23.8 مليون نسمة تقريباً، وذلك لاختيار رئيس جديد للبلاد خلفاً للرئيسة المنتهية ولايتها «تساي إنغ وين» والمنتمية للحزب الديمقراطي التقدمي «DDP»، وانتخاب مجلس تشريعي جديد، فيما كان العنوان الأبرز للحملات الانتخابية هو المفاضلة بين التحرك نحو الاستقلال بكل ما يترتب عليه من الدخول في حرب مع الصين أو الإبقاء على الوضع الراهن بهدف الانتقال مستقبلاً نحو الوحدة مع البر الصيني.
تنافس على المنصب مرشحو الأحزاب الرئيسية الثلاثة وهي: حزب «DDP» الحاكم المعادي لبكين والمتبني لفكرة إعلان الاستقلال رسمياً عن البر الصيني، وحزب الكومينتانغ «KMT» الداعي للتفاهم مع بكين مع الحفاظ على الوضع الراهن، وحزب الشعب «TPP» الذي يتخذ موقفاً وسطاً ويركز برنامجه على قضايا محلية مثل تمكين المرأة وتكاليف المعيشة.
جاءت النتيجة كما كانت متوقعه، بل مطابقة لمعظم استطلاعات الرأي التي جرت العام الماضي، وقالت إن الكفة تميل نحو مرشح الحزب الحاكم «لاي تشينغ تي» الذي فاز برئاسة البلاد بالفعل وصار اليوم رئيساً جديداً لمواصلة ما بدأته سلفه منذ عام 2016. غير أن المفاجأة كانت في انتخاب مجلس تشريعي يسيطر عليه نواب منتمون لحزب المعارضة الرئيسي (KMT)، وهو ما سيعقد مهمة الرئيس الجديد ويجعله مقيداً لجهة اتخاذ قرارات انفصالية.
ومن هنا قيل إن المنتصر الحقيقي في هذه الانتخابات هو «الديمقراطية» التي تتمتع بها تايوان منذ تخليها عن ديكتاتورية مؤسسها الماريشال «تشاينغ كاي شيك» وابنه وخليفته «تشيانغ تشينغ» في أوائل التسعينيات، هذه الديمقراطية التي أمنت لها مركزاً متقدماً في قائمة منظمة فريدوم هاوس للحريات (93 من أصل 100) وهو ثاني أعلى مركز في آسيا بعد اليابان، كما أمنت لها السلام والاستقرار اللذين لولاهما لما تمكنت من مواصلة تحقيق خطوات جبارة في مجالات النمو الاقتصادي والتكنولوجي كافة والتربع على عرش «أشباه الموصلات» عالمياً.
يرى المراقبون في ما حدث أنه أفضل نتيجة ممكنة لشعب لا يريد الدخول في مواجهة مع بكين بشأن الاستقلال. كما أن هؤلاء المراقبين يعزون أسباب فشل الحزب الحاكم «DDP» في السيطرة على البرلمان لصالح غريمه «KMT»، إلى سياساته الداخلية غير المرغوب فيها شعبياً حول تخفيض المعاشات التقاعدية وتقليص العطلات الرسمية مثلاً، علاوة على ذهاب قادته بعيداً في استفزاز بكين، ما دفع الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات صارمة أدت إلى عزل تايوان دبلوماسياً (لا تتمتع تايبيه اليوم إلا بعلاقات دبلوماسية مع 13 دولة صغيرة هامشية) والتصعيد عسكرياً (من خلال مناورات يومية عبر المضيق) والتضييق عليها اقتصادياً (بانتزاع الأسواق العالمية منها).
وعلى حين أعربت واشنطن عن سعادتها بهذه النتيجة (على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن)، معزية إياها إلى تمسك التايوانيين بنظامهم السياسي التعددي «الذي اكتسبوه بشق الأنفس ويصلح مثالاً لمنطقة المحيطين الهندي والهاديء»، وعشقهم لنمط حياتهم القائم على الحرية والشفافية والاقتصاد الحر، نجد أن بكين فسرت النتيجة من وجهة نظرها على أنها هزيمة مرة لدعاة الانفصال ورافضي مبدأ «الصين الواحدة»، وأنها تعكس إرادة غالبية التايوانيين ورغبتهم في «مواصلة المشاركة في فوائد التنمية السلمية في العلاقات عبر المضيق».