يعدّ كتاب «المشهد السياسي لغرب فرنسا في ظل الجمهورية الثالثة» لأندريه سيغفريد 1959-1875، الأول في العالم في مجاله.
بشر بولادة مبحث «علم الاجتماع الانتخابي» غير المسبوق. الذي ازدهر لاحقاً مع انتشار استطلاعات الرأي. إن فرادة الفكرة في المبحث المذكور ملخصها التالي: «إن شمال المنطقة الفرنسية «فاندي» تربتها جرانيتية، اقترعت لليمين. أما جنوبها ذات التربة الكلسية، فاقترعت لليسار». سيغفريد جمع بذلك الجيولوجيا إلى الإيديولوجيا، لا للفت الأنظار، بل لتوليد معطى علمي، أثره كبير في تكوين شخصية الفرد وقناعاته. إن قراءة سريعة تبين أن اليمين بدا كالجرانيت صلباً متعنتاً، بينما اليسار بدا كالكلس رخواً قابلاً للتبعثر.
والمصطلحات السياسية، على اختلاف دلالاتها، منشأُها في الأصل أجنبي غربي، لا عهد للعرب بها على مدى تاريخهم القديم، وليس المعاصر؛ الذي تراءت ملامحه في نهاية الحرب العالمية الثانية. من تلك المصطلحات الوافدة، التي انشغلت الشعوب العربية بها طويلاً، مصطلحا «اليسار واليمين»؛ إذ يسمّى المنتمي للأول يسارياً والمنتمي للثاني يمينياً. وإن لم يشأ شخص سويّ الطويّة، الانتماء لأي من الطرفين، أطلقوا عليه صفة مستقل. لكن في الحقيقة أن ثلاثتهم يشربون من قربة واحدة.
وعبر التاريخ العربي الحديث، لم يمرّخ مصطلح بالتراب تحت أقدام الغاضبين من الناس مثلما تمرّخت تلكم المصطلحات الثلاثة «اليسار، اليمين، المستقل». بعدما تنبّهت أغلب الشعوب العربية إلى أنها خدعت، واشترت الأوهام، وتعلقت بأحلام سرابية أدامت عليها لهاثها؛ فأهدرت ردحاً طويلاً من أعمارها تنتظر معجزات اليسار، وكرامات اليمين، ونخوة المستقل. لكن لم يصلها شيء منها، لتخرج مكسورة القلب بنتيجة واحدة: إحباط مقيم، وشللٌ في طاقاتها مستمر.
وقروح كهذه لم تقتصر على شعوبنا العربية فقط، بل مست أقواماً قبلنا في المقلب الأجنبي، قروح مثلها؛ فيكتب ونستون تشرشل في «العاصفة الوشيكة»: ظلت الجماهير غارقة في الجهل. أما قادتها الذين لا يهمهم إلا كسب الأصوات، فلم يبذلوا جهداً لتخليصهم من الأوهام.