مؤشرات عديدة خلال الشهور الأربعة الأخيرة التي تلت هجمات السابع من أكتوبر، وبدء العدوان الإسرائيلي الدموي على قطاع غزة، توضح كلها أن ثمة اضطراباً شديداً غير مسبوق داخل إسرائيل، النخبة والمجتمع، تعددت وتتالت مظاهره على المشهد كله.

فمن الواضح أن الاهتزاز الهائل الذي أصاب الأعمدة الرئيسة التي قامت عليها دولة إسرائيل، وعاشت بها لأكثر من 75 عاماً، قد أصاب، وبعمق، قدرة المجتمع على التماسك والاطمئنان، وإمكانات النخبة الحاكمة والمعارضة على اتخاذ القرارات السليمة في وقتها المناسب، سعياً لتحقيق أهداف واضحة ومحددة لديها.

فالهجوم وما سبقه من فشل ذريع لكل الأجهزة العسكرية والأمنية والاستخباراتية في توقعه ومواجهته، أطاح بقوة بانطباع مهيمن ومستقر لدى المجتمع الإسرائيلي منذ إنشاء الدولة، ولدى غالبية الأطراف الإقليمية والدولية، بقدرتها غير المحدودة على حماية أمنها وسكانها، وامتلاكها كل القدرات البشرية والعسكرية والتقنية، التي تمكنها من تحقيق هذا من دون اختراقات كبيرة.

وكان حجم الاختراق الهائل الذي أحدثه هجوم السابع من أكتوبر، وما ترتب عليه من خسائر وإخفاقات بشرية وعسكرية وتكنولوجية غير مسبوقة، مؤشراً خطيراً وغير متكرر على تحطم انطباع «الدولة فائقة القوة مترامية الأذرع»، وهو ما أضافت إليه شهور العدوان العسكري على غزة، التي فاقت الأربعة، ومنها نحو ثلاثة شهور من التوغل البري، شروحاً أخرى أكثر عمقاً.

فالقدرات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية المتوقع تقليدياً استخدامها بكفاءة فائقة من إسرائيل في القطاع، لم تفضِ إلى هزيمة حاسمة للمقاومة، ولم تستطع تحرير أسير إسرائيلي واحد من الذين تحتجزهم لديها، واقتصرت النتائج الملموسة على قتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير نحو 60 % من القطاع، وتشريد أكثر من 75 % من سكانه.

واخترقت مشاعر الخوف والهلع العميقة والهائلة، كل جنبات دولة إسرائيل، مجتمعاً ونخبة، وتفاعلت مع أحاسيس وانطباعات قديمة موروثة بالاضطهاد والتهديد وفقدان الأمان. وأدى التهجير القسري لعشرات الآلاف من اليهود ساكني مستوطنات ومدن غلاف غزة والجليل الأعلى، إلى منطقة إيلات، حماية لهم من الهجمات العسكرية من القطاع وجنوب لبنان، إلى تجسيد واقعي لهذه المشاعر، للمرة الأولى منذ إنشاء الدولة، بهذا الحجم والاتساع، ما زادها عمقاً.

كل ما سبق، وضع «دولة اليهود»، كما أسماها الأب المؤسس تيودور هيرتزل، في حالة اضطراب هائل، تجاه تحديد مساراتها في الحرب أو السلام. فالإمعان في الرد والانتقام، هو اليوم الأكثر سيطرة على مشاعر وتصرفات المجتمع والنخبة الحاكمة والمعارضة، وهو ما يفسر بجلاء، الاستمرار والإمعان في العدوان على غزة، وتدميرها، وقتل أهلها.

إلا أن عدم تحقق شيء يذكر من هذا التوجه، بما يزيل مشاعر الهلع وافتقاد الأمن المسيطرة على الجميع، بل وزيادة انتشارها، بدفع شرائح وقطاعات من المجتمع والنخبة، إلى التلمس المهتز والمضطرب لسبل أخرى، يأتي التفاوض على إطلاق وتبادل الأسرى والمحتجزين في مقدمها. وحتى هذا التفاوض، الذي نجح في أسبوع الهدن الوحيد، لم يصبح بعد الاختيار النهائي لدى المجتمع والنخبة الإسرائيليين، في ظل حالة الاضطراب والاهتزاز الشديدة التي تطيح بهما.

والأرجح على المدى القصير جداً، أن عوامل عديدة، أبرزها الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة للحملة العسكرية على غزة، سوف تدفع القيادة الإسرائيلية، ومن ورائها قطاع مهم من المجتمع، نحو قبول التفاوض والدخول في مسار بطيء يفضي إلى وقف كامل للعدوان وإطلاق النار.

أما على المدى القريب، وبعد إنجاز هذا، فسوف تشهد إسرائيل - غالباً – حالة غير مسبوقة من التفاعلات والتغيرات الداخلية، السياسية والاجتماعية والفكرية، تستغرق شهوراً ليست قليلة، وبعدها ستستقر «دولة اليهود» على قرارها ومسارها النهائي، والاحتمالان متساويان: فإما القبول بحل الدولتين، والدخول في مفاوضات طويلة شاقة حول تفاصيله، وإما تغلب الرؤى والتيارات الدينية الخلاصية المتطرفة على المجتمع، ومن ثم على الحكم، وعندها سيكون الله وحده هو الذي يعلم شكل المنطقة حينها، والمصير النهائي الذي ينتظر «دولة اليهود».