بُعيد إعلان قيام إسرائيل، تنازع دافيد بن غوريون، رئيس أولى حكوماتها، مع ناحوم غولدمان، زعيم المؤتمر اليهودي العالمي، حول من تكون له الكلمة العليا في التحدث باسم يهود العالم وتمثيلهم. كان ذلك المشهد في حينه نذيراً عاجلاً بطموح رجال الدولة الوليدة للهيمنة على ظهيرها الحركي الأيديولوجي التاريخي المؤسس، وكذا على الجاليات اليهودية بعناصر قوتها وتأثيرها الدولي، ولا سيما في عالم الغرب.

الشائع أن تلك المناكفة انتهت بانتصار تيار الدولة. ومما يساق في معرض تأكيد هذه النتيجة أن إسرائيل هي التي انبرت للمطالبة بما يعرف بالتعويضات عن اضطهاد اليهود في العهد النازي، وأنه تم الإقرار الألماني القومي والأوروبي العام لها بهذا الحق.

المعطيات المجردة الموصولة بشؤون يهود العالم، حقوقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، لا تسوغ للطرفين المتنازعين، الدولة والمؤتمر، أحدهما أو كليهما، الادعاء بتمثيل اليهود أينما كانوا. تفصيلات هذه القناعة أمر شرحه يطول، لكن ما يعنينا في هذا المقام هو خطأ التسليم التام بحسم الاصطكاك القديم لصالح الدولة. ففي إطار وقائع ومناسبات بعينها يطل هذا الاصطكاك ويطفو، وتضطر نخب الحكم والسياسة الإسرائيلية إلى تجديد استدعاء مبررات علو كعبها، بينما تبث بعض القوى والتنظيمات اليهودية، وبخاصة في الولايات المتحدة، دفوعاً منكرة لهذا الوضع.

لعل أكثر القضايا تداولاً بين يدي هذا الخلاف تلك التي تتعلق بالهجرة اليهودية، فاليهودي الصالح الورع حقاً، بزعم رجال الدولة، هو الذي يهاجر إلى «أرض الميعاد»، ودون هذه الانتقالة الجذرية ربما عاش اليهودي فاقداً للأهلية اليهودية الكاملة. ومن جهتهم، يسخر رافضو بيت الطاعة الإسرائيلي من هذا التكييف، ويترافعون بما خلاصته أنه لولا نفوذهم وأدوارهم الفاعلة في المدارات الدولية، ومنها أروقة الحكم وصناعة القرار في عواصم الغرب بالذات، لما نشأت الدولة ولا صمدت وجودياً من الأصل.

الحق أن هذا التناظر يكاد يتوارى عن الأعين، وقد يطل بشكل عابر في الأحايين التي تشهد حوادث بعينها، مثل تعرض بعض يهود الخارج للعنف أو التوبيخ؛ إذ غالباً ما يستغل الإسرائيليون هذه العوارض لشحذ دعوتهم الثابتة لليهود بالهجرة إلى «دولتهم» بصفتها الملاذ الآمن لهم، ويلي ذلك نقاش محدود حول جدوى هذه الدعوة، لكن الأوقات التي يبلغ فيها التكاسر العضوي مع إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية حدوداً فارقة، كالاقتتال الدامي الممتد، هي ذاتها الأوقات التي يتجلى فيها هذا التناظر أكثر فأكثر، حتى إنه يأخذ مظهر الأزمة.

استيعاب هذه الخلفية وتفهمها مهم جداً لمن أراد استكناه ما يدور من أجواء محمومة بين طرفي التشاكس القديم، التي ارتقت بهما إلى طور التلاسن الحاد بالفعل، غداة السابع من أكتوبر والحرب الإسرائيلية المسعورة على غزة.

عند مقاربة هذه الأجواء عن كثب، نتأكد يقيناً من تهافت ادعاء إسرائيل باندراج اليهود جميعهم، ككتلة اجتماعية دينية، تحت عباءتها، أو تأمينهم من دون قيد أو شرط على ما تقول أو تفعل. وبمعنى ما نلمس أن آراء غولدمان وطروحاته، التي استنكرت استعلاء بن غوريون وجماعة الدولة على المؤتمر اليهودي، وذهبت لاحقاً إلى «أن إسرائيل ستختفي إذا ما ظلت تمارس الإرهاب اليومي ولا تعترف بدولة فلسطينية»، ما زالت حية ترزق. ولا يخلو من مغزى بهذا الخصوص انضمام كثير من أبناء وأحفاد مدرسة غولدمان إلى المحتجين على سلوكيات إسرائيل في معظم شوارع مدن الغرب على جانبي الأطلسي.

يدفع هؤلاء المحتجون بأن الدولة التي توغل في التوحش ضد الفلسطينيين ليست منهم في شيء، فهي لا تمثلهم ولا تعبر عن نوازعهم بالمطلق، ولا تمضي على الطريق اليهودي المستقيم، وإنما تمثل خطراً على تاريخهم وقيمهم وصورتهم بين الأمم، وتحملهم أوزاراً لم يقترفوها، وتنقلهم بعامة من مربعات الضحايا إلى دوائر الجلادين الأجلاف المستحقين للعقاب. وترتكز هذه الدفوع إلى الإحصاءات التي تؤكد تزايد أحداث العنف ضد يهود العالم عموماً، في ضوء حرب غزة، بمعدلات قياسية.

وضمن العبر التي تستلهم من هذه الحقيقة أن إسرائيل الدولة ليست بالمكان الأكثر أمناً لليهود الذين هاجروا إليها، علاوة على تسببها في تهديد أمن الذين لم يهاجروا. وهؤلاء الأخيرون هم من سارعت الدولة إلى طلب المدد منهم وإسنادها في محافل السياسة الدولية، الأمريكية منها بشكل استثنائي، وهذه حجة كبرى داحضة لمنطق بن غوريون وأشياعه بشأن اليهود الصالحين وغير الصالحين. هل يعني ذلك أن الكفة راحت تميل إلى جانب العقلاء من يهود الخارج، بما فيهم القطاعات المتنامية الرافضة للجور الإسرائيلي على الحقوق الفلسطينية. ربما كان الأمر كذلك بالفعل.