من أخطر ما يؤثر على المؤسسات الحديثة النشأة آلية انتقاء كوادرها. فإذا ما كان الرئيس وفريقه ليسوا على قدر من المهنية فإنهم على الأرجح سيختارون من يشبههم. وشيئاً فشيئاً سوف تنتشر ثقافة متطابقة مع المؤسسات التي جاؤوا منها. وكل من يلتحق بهم (مهما كانت مهنيته) سيجد نفسه يسبح عكس التيار.
والمقصود بالثقافة المؤسسية مجموعة القيم والمعتقدات والتقاليد والممارسات والأساليب الإدارية السائدة التي تنصهر في بوتقة واحدة لتشكل سلوكيات أفرادها وكيفية تفاعلهم مع بعضهم البعض. يمكن القول إن الثقافة المؤسسية هي النسيج الاجتماعي الذي يوحد العاملين ويرشدهم إلى كيفية التصرف في مواقف عديدة.
فهناك مؤسسات بنيت على أن كل شيء يقوم على فرد واحد one-man-show. وهناك منظمات يغلب عليها طابع فرق العمل، فإن غاب فرد أو غادر حل محله بديله المؤهل بالتدريب والتطوير طوال السنوات الماضية.
ولذلك نحن كمختصين في الإدارة ما أن يطلب منا استشارات في تطوير الثقافة المؤسسية السائدة أو تقييمها، حتى نبدأ أولاً بتحليل القيم السائدة. فقد تجد في مؤسسة ما أن تعارض المصالح أمر مشروع ومقبول من باب «أهل مكة أدري بشعابها»، فتكتشف خيطاً رفيعاً لأسباب التجاوزات أو الإخفاقات.
بعض المؤسسات يغيب عنها مبدأ الثواب لكنها تمعن في العقاب أو العكس أو تفتقر لكلا الأمرين، فيتسلل الفتور والنفور من العمل الجاد المتفاني. القيم تشرح لك معظم ما يجري. ثم تبدأ مرحلة تحديد القيم المقبولة مجدداً وكأنها محاولة لإعادة تعريفها. ومما يدهور عمل أي مؤسسة افتقارها للتواصل الفعال، فكل قطاع يعمل بصورة منفصلة وهناك لخبطة في الأولويات وعدم استفادة من الأخطاء وعدم فهم مراد كل قطاع.
فيجد العاملون أنفسهم بعيدين عن أي محاولة إبداع أو ابتكار. كل همهم التخلص من المهمة المطلوبة بأي ثمن! ولذلك تكثر الأخطاء والمخالفات بسبب غياب الشفافية أو الثقة أو الصراحة والوضوح بين الموظفين والإدارة.
بعض القياديين يعتقدون أن ما يجري «فوق» هو «سر من أسرار الأمة» لا ينبغي أن يبوحوا به لأحد! غير أن المكاشفة تريح الجميع، ذلك أننا لن نصل إلى مبتغانا إذا لم نخبر كل قسم بما نحن مقبلون عليه من تحديات وتوجهات وأهداف.
أما أحد أكثر ما يبدد جهود بناء ثقافة مؤسسية مهنية وجاذبة هو عدم جدية الإدارة العليا في الالتزام بأهداف المؤسسة، وغياب القدوات فيها، وعدم تعزيز القيم المؤسسية في تصرفات المسؤولين. فكيف نتوقع من سائر العاملين أن يتحلوا بالالتزام والمهنية. وكيف نتوقع تغيراً جذرياً في بيئة العمل، ونحن ما أن نتعرض لأي بوادر أزمة مالية عابرة حتى نسارع إلى إلغاء ميزانية التدريب والتطوير.
فالتدريب ينقل للفرد المهارات المطلوبة، أما التطوير فهو البرامج طويلة المدى لإعداد القياديين والمديرين والمرؤوسين للمرحلة اللاحقة أو المنصب التالي. فإذا ما أرادت المؤسسة إحداث تغير جذري فإنها ينبغي أن تلتفت إلى أهمية إدخال برامج تدريبية وتطويرية تنافسية واحترافية. فعندما «تتذاكى» على المدربين بمبالغ زهيدة لا يأتيها سوى الأسوأ.
الأعلى سعراً وجدوا من يقدر جهودهم. وربما هذا ما شوه سمعة التدريب عموماً لأن من يحمل لواءه إما لا يفهم فيه أو أنه يقدم قشوراً ومادة سطحية لا تلقى تقييماً حقيقياً لها من قبل إدارة الموارد البشرية. يشكي لي أحد الموظفين من أن إدارتهم تتعاقد مع أحد أسوأ المدربين، وأجمع كل من يأخذ دوراته الإلزامية على رداءة طرحه، لكنه مستمر لسنوات، ثم اكتشفوا أنه صديقٌ لمتخذ القرار في قسم التدريب.
كان جلياً في ثقافتهم ألا يؤخذ بآراء المتدربين بعين الاعتبار فيكون مصير استباناتهم سلة المهملات! في حين تجد في الثقافات المؤسسية الأفضل إبداعاً متجدداً في التدريب، وإدخالاً لأفضل وسائله العصرية مثل المحاكاة (stimulation)، والتطبيقات العملية، ودراسات الحالات المفصلة تفصيلاً دقيقاً على المؤسسة، بحيث يخرج المتدرب بمهارات حقيقية تساعد في تغيير شيء من تلك الثقافة المؤسسية البالية. عندما نريد غرس ثقافة جديدة كلية لابد أن نستقطب الكفاءات في رأس السلم حتى يختاروا من هم على شاكلتهم في المهنية والعطاء. ذلك أن تنظيف السلم يبدأ من الأعلى وليس من الأسفل.