البعض ينظر إلى تحذيرات الإدارة الأمريكية لروسيا في شأن العملية الإرهابية التي تبناها تنظيم «داعش» الإرهابي في قاعة احتفالات «كروكس سيتي هول» قبل وقوعها بأيام على أنها من تدبير الغرب، وواشنطن تحديداً، بعدما نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي تضمنه ليحكم روسيا لمدة ست سنوات جديدة، وهي فترة كافية لرسم خريطة الطريق لبلاده في مرحلة مقبلة. وهذه وجهة النظر هي الأكثر تداولاً وشعبية رغم إسراع أوكرانيا والغرب عموماً إلى نفي صلتهم بالعملية، ورغم تبني تنظيم «داعش» للعملية الإرهابية.
بالنسبة لي، تحذيرات الإدارة الأمريكية بعيدة كلياً عن نظرية المؤامرة على أقل تقدير في هذه الحادثة، ومن وجهة نظري هناك ثلاثة أسباب هي: السبب الأول له علاقة بعلم تحليل البيانات والمعلومات.
وهو منتشر ويحظى باهتمام بشكل كبير في دوائر وأجهزة الاستخبارات الغربية، ويقوم هذا العلم في المرحلة الأولى على جمع المعلومات من خلال متابعة المحادثات (chatting) بين أفراد تلك الجماعات التي يتم مراقبتها وتتبعها في وسائل التواصل الاجتماعي ومن ثم يتم الانتقال إلى مرحلة التحليل بهدف معرفة حركتهم.
وقد حدث هذا على سبيل المثال في بداية الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تم رصد حركة الأشخاص الهاربين من الحرب من أوكرانيا، فكانوا مثلاً يريدون معرفة نوعية الناس الذين يذهبون إلى بولندا ونوعية الذين يذهبون إلى المجر.
السبب الثاني: كما أعتقد أن له علاقة بمعرفة الغرب وإدراكهم لرد الفعل الروسي في حال استطاعت التحقيقات الروسية من كشف المعلومات حول من يقف وراء هذه العملية بل إن الخطاب الرسمي الروسي توعد الغرب صراحة بالرد المناسب إذا ما اتضح له أن دولة غربية ما قد دعمت تلك العملية الإرهابية.
أما السبب الثالث: وهو الأكثر موضوعية من وجهة نظري، فهو نجاح تنظيم «داعش» في اختراق روسيا، وهذا يحمل إشارة غير مريحة للغرب عموماً من حيث إمكانية وقدرة تنظيم «داعش» على اختراق تلك الدول، وربما فرنسا ودول وسط أوروبا مثل بلجيكا، فهي من المناطق «الرخوة» أمنياً مقارنة بروسيا، وحتى بباقي دول أوروبا الغربية بما فيها بريطانيا كل ذلك مقارنة بروسيا.
وبالتالي فإن تداعيات هذه العملية الإرهابية قد تتوسع وعليه تكون مسألة توظيفهم أمريكياً للهجوم على روسيا مستبعداً لأن الإرهاب بطبيعته يتصف بـ«الخسة والخيانة»، فقد يهاجم عدوك اليوم وغداً قد يهاجمك أنت ويعتدي على استقرارك وأمنك.
يبقى علينا أن ندرك ونعرف أن الإرهاب بشكل عام وتنظيم «داعش» على وجه الخصوص بدأ يغادر الشرق الأوسط ويبحث عن مناطق أكثر أمناً له حتى يتمكن من ممارسة هوايته الإجرامية، وإذا كان هذا التنظيم قد انتشر في القارة الأفريقية ويقوم بعمليات عسكرية إلا أن صيته الإعلامي ليس له ذلك الصدى الكبير والمؤثر، وهو عامل نفسي واستراتيجي مهم جداً للإرهابيين.
فمنذ تأسيس تنظيم «القاعدة» في أفغانستان وصولاً إلى تنظيم «داعش» الذي تفنن في إجرامه، حيث كان حريصاً على بثه ونشره إعلامياً بهدف خلق حالة رعب كبيرة بين الناس، وبالتالي فهو بدأ ينتشر في الغرب وفق استراتيجيته المعروفة بأنه يخفت فترة الضربات القوية، ولكنه يرجع بعدما يطمئن على سكون الضربات ضده.
تركيز الغرب عموماً على الحرب الروسية-الأوكرانية والعمل على هزيمة بوتين بأي شكل صرف أنظار الأجهزة الأمنية الغربية عن التركيز على نشاطات تنظيم «داعش»، وهذا كان متوقعاً منذ بدء الحرب لأن استغلال الجماعات والتنظيمات الإرهابية انشغال العالم بقضايا أخرى يعني فتح المجال لنشاطهم، وقد حدث ذلك خلال أزمة فيروس كورونا، واليوم يتكرر مع روسيا، بعض القضايا معالجتها تحتاج إلى تكاتف جميع الفاعلين الدوليين من دول ومنظمات ومنها أهم هذه القضايا مكافحة الإرهاب.