من دون إنعاش الذاكرة الموصولة بالسياسات والمواقف الإسرائيلية تجاه عملية التسوية مع العرب بعامة، والفلسطينيين بخاصة، سيما غداة حرب يونيو 1967، سنظل حبيسي الاعتقاد السائد بقوة الآن، الذي يربط تعثر هذه العملية أو فشلها بالرؤى الذاتية لبنيامين نتانياهو وعدد من أعضاء كتلته الحاكمة.
وهو اعتقاد ينطلق، بوعي أو بلا وعي، من شخصنة أسلوب الحكم والإدارة في تل أبيب، وفصل حاضر إسرائيل عن أسلوب نشأتها وطبيعتها وبطانتها الأيديولوجية وأنماط تحالفاتها ووظيفتها. ومن أهم مآلاته الاقتناع بأنه باختفاء نتانياهو وبضعة المنحازين لأفكاره «المتطرفة» من الصورة، سوف تشرق شمس التسوية من جديد.
عند امتحان هذا الاعتقاد وما ينبني عليه ويتأتى عنه من تقديرات ونتائج، في ضوء المتابعة التاريخية الموضوعية لما يمكن أن ندعوه بالثوابت الإسرائيلية تجاه التسوية، نتأكد من انطوائه على خلل جسيم، وأن معتنقيه كمن يغمس من خارج الطبق.
بعد سكوت مدافع حرب يونيو بأيام قليلة، عرضت حكومة ليفي أشكول تصورها للتسوية على أساس الملامح العريضة التالية: رفض العودة إلى خطوط الهدنة لعام 1949؛ إجراء مفاوضات صلح مباشرة مع الدول العربية قبل الحديث عن أي انسحاب؛ الحدود الآمنة لإسرائيل تقع في مكان ما بين مواقع الجيش في نهاية حرب 67 وبين حدود الهدنة؛ مدينة القدس بشطريها غير قابلة للتفاوض.
مرتفعات الجولان جزء من «أرض إسرائيل» ينبغي ضمه إليها، يمكن التفاوض حول صحراء سيناء ومنطقة قناة السويس؛ ضم مناطق من الضفة الغربية وتشجيع احتمال قيام كيان فلسطيني في ما يتبقى منها تحت السيطرة الإسرائيلية الأمنية والخارجية؛ يتم بحث حل مشكلة اللاجئين العرب في نطاق إقليمي ودولي بعد توقيع الصلح؛ إسرائيل دولة يهودية ويجب أن تبقى كذلك حتى وإن ضمت مناطق بها سكان عرب؛ أمن إسرائيل هو المعيار المحدد للتعامل مع أي عملية سلام.
مع مرور الوقت وكثير من المستجدات والمتغيرات، كالتوسع الاستيطاني في الأرض المحتلة، أضاف فقه التسوية الإسرائيلي إلى ما سبق: استحالة التخلي عما تم إنشاؤه من تجمعات يهودية استيطانية كبرى، وبخاصة في رحاب الضفة وجوار القدس وفوق أحواض المياه الجوفية، مع إمكانية النظر في تبادل للأراضي.
بين عهدي أشكول ونتانياهو، انقلبت الأحوال الإقليمية والدولية من حول ما كان يعرف أكثر بـ«مشكلة الشرق الأوسط» رأساً على عقب، وتوالت على صناعة القرار في تل أبيب حكومات تنتمي إلى كل الأطياف السياسية؛ ومع ذلك لم تتزحزح إسرائيل أو تنحرف بحيثية كبيرة عن بوصلة هذه الثوابت، حتى إنها بدت ككتاب مقدس لا تبديل لكلماته.
الاستهداء بالمثل الصهيونية وأرضيتها الفكرية العقيدية المهيمنة هو كلمة السر في هذا الثبات، ويتجاوز كثيراً في حق هذه المثل من يسعى لتصنيف القوى والحركات الحزبية والسياسية في إسرائيل على غرار معالجة الأطر المعروفة في الكيانات الدولية المعتادة؛ أي توزيع هذه الأطر بين يمين ووسط ويسار، وما بينهم من مساحات توحي بالميل نحو التطرف أكثر أو إلى الاعتدال أكثر.
كالقول بوجود يمين اليمين ويمين الوسط ويسار الوسط ويسار اليسار؛ ذلك لأن الصهيونية، التي تطوي هؤلاء جميعاً تحت عباءتها، هي بطبيعتها ومحتواها ملة واحدة، وليس ثمة في نظام الحكم والإدارة في إسرائيل من مكان معتبر أو مكانة راسخة أو كلمة مسموعة لمن يخرج عن هذه الملة.
سيقول البعض إن هذا النظام يحوي تعددية حزبية سياسية يعز نظيرها في أعتى الديمقراطيات..
هذا صحيح من حيث الشكل، غير أن التحليل الموضوعي المعمق يصل بنا إلى أنهم جميعاً يتشاكسون ويتخاصمون ويتجادلون ويتدافعون داخل بيت واحد، تمثل ثوابته جدراناً سميكة لدولة عميقة، يتلاقون ويتوافقون ويتوقفون عندها. ومن يخرج عن هذه الثوابت ليس عليه إلا أن يغادر هذا البيت كلياً، أو أن يبقى داخله بلا فاعلية تذكر.
ونحسب أن من يأخذ بهذا الخيار الأخير يمارس دوراً ملموساً في تجميل صورة الدولة ونظامها. هذا ما حدث ويحدث مثلاً مع أعضاء الكنيست العرب والحزب الشيوعي، وكذا مع ما عرف قبل عقدين بالمؤرخين الجدد، أولئك الذين انتقلوا إلى الظل وما عدنا نسمع لهم حساً ولا ذكراً.
أغلب الظن أن نتانياهو ابن بار لهذا المشهد، يحمل لواءه ويعرف مستقره ومستودعه، وهو ينطلق في حركته السياسية، على الصعيدين الداخلي بعامة، والخارجي مع السياق الفلسطيني بالذات، بناءً على هذه المعرفة، وليس لأنه يخشى فقط، كما يشاع، من عاقبة المحاكمة والسجن.