الثقافة بالمعنى الواسع التي تعكس الحضارات الإنسانية لها أثر كبير في السياسات والتنمية والظواهر الاجتماعية عند الشعوب.
وقد صيغ مفهوم الثقافة السياسية في أدبيات العلوم السياسية لفهم أنظمة الحكم المتعددة في العالم.
فهل الواقع الاجتماعي والاقتصادي يفسر بروز نظام سياسي معين؟ أم الثقافة السائدة هي التي تشكل الأساس المتين لنظام الحكم؟
وقد عرف علماء السياسية الثقافة السياسية بالتفكير الذاتي للأفراد تجاه السياسة بشكل عام. بمعنى آخر، ماهية الوعي الذاتي بالسياسة والتوجهات التي تبنى عليها.
فالمعروف أن السلوك السياسي يتحكم فيه عاملان: الظروف الموضوعية ـ مثل الوضع الاقتصادي والاجتماعي ـ والظروف الذاتية ـ مثل القيم والموروثات الاجتماعية والدينية والتقاليد.
وتقوم الدراسات على هذه المقاربات والتي ترى أن الثقافة بالمعنى الأخير تلعب دوراً أساسياً في طبيعة الأنظمة السياسية والتطور الاقتصادي والتكنولوجي.
وقد أكدت الدراسات الغربية على دراسات العالم النامي منذ منتصف القرن المنصرم بشأن الثقافة وأثرها على المجتمعات المستقلة حديثاً.
ومن منطلق تعظيم الذات الغربية ـ المركزية الأوروبية ـ كانت الدراسات تركز على تفوق القيم الغربية على سواها من القيم في الدول النامية أو دول المعسكر الاشتراكي.
وترى هذه النظريات أن القيم الغربية والتي تشجع الفردانية والاجتهاد والعمل والمثابرة هي سبب تقدم الغرب وسبب النمو الرأسمالي والديمقراطية.
فالنزعة الفردانية تجعل من الأوروبي والأمريكي يسعى إلى تحقيق ذاته دون أن يعبأ بالآخرين. وأن الرأسمالية تتطلب هكذا نزعة ليتحقق التنافس بين الأفراد لصالح الجميع.
فمن تخلف عن الركب فعليه عواقب التخلف، ومن شمر وتقدم نال ثواب مثابرته. وعندما تسود هذه القيم الفردانية فإن المجتمع بجميع أفراده يتقدم لتحقيق مراده دون الاعتماد على الآخرين.
وقد سبق هؤلاء الباحثين مؤسس علم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في فهم العلاقة بين القيم الثقافية والتطور الاقتصادي.
وفي كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (1905) يرى أن المذهب البروتستانتي يحث على خاصية مهمة بخلاف المذهب الكاثوليكي بحب الحياة والمثابرة والعمل الجاد والادخار والذي عجل من ظهور الرأسمالية في المناطق التي ينتشر فيها المذهب البروتستانتي ـ وخاصة الكلفانية.
لا شك أن هناك الكثير ممن اعترض على هكذا رؤية. وقد انتقد البعض هذه الرؤية على أساس أنها تقزيم لواقع أكثر تركيباً وتعقيداً يتداخل فيها المادي والمعنوي في التحولات الكبيرة للمجتمعات.
ولا تقتصر عوامل التغيير على الدين والثقافة ولكن تتجاوزها إلى عوامل أخرى مثل الاقتصاد والتغيير الاجتماعي.
وقد التقط هذا الخيط بعض الباحثين الذين أذهلتهم التنمية الاقتصادية الكبيرة التي حدثت في دول شمال شرق آسيا والمعروفة بالنمور الآسيوية وهي سنغافورة، هونغ كونغ، كوريا الجنوبية وتايوان.
وممكن إضافة الصين والتي صعدت كدولة عظمى على الساحة الدولية.
وعزا التقدم الهائل الذي حصل في هذه الدول الآسيوية إلى الثقافة الكنفوشية. وقد أوضح البعض أن القيم الكنفوشية مثل التعاون والترابط العاطفي والهوية الجمعية والانسجام شكلت أساساً للتقدم والعمل والتطور الاقتصادي.
والجدير بالذكر أن علماء الاجتماع الغربيين كانوا يرون أن هذه القيم الآسيوية إعاقة للتقدم لأنها لا تسمح بالتطور الفردي .
والذي يعد ضرورة لتطور الروح الريادية التجارية والاقتصادية الضرورية للانتقال من النمط الاقتصادي التقليدي إلى النمط الصناعي الحديث.