أنجبت إيران ثلة من المبدعين في فنون الإخراج السينمائي ممن حظوا بالتقدير العالمي ونالوا جوائز سينمائية دولية. بعض هؤلاء غادر بلاده بعد سنة 1979 إلى أوروبا والولايات المتحدة وأبدع من هناك، والبعض الآخر بقي في الداخل وقاوم كل أشكال الضغوط ضد الفن وأهله.
من بين هؤلاء المخرج والمنتج وكاتب السيناريو والمصور والرسام والشاعر«عباس كيارستمي» المولود بطهران في 22 يونيو 1940 والمتوفى بسرطان المعدة بباريس في 4 يوليو 2016، والذي عمل في مجال صناعة الأفلام منذ أواخر الستينات ولفت الأنظار بأعماله المتميزة، ولاسيما ثلاثية «كوكر» («تستملا الحياة» و«تحت شجر الزيتون» و«طعم الكرز»)، علماً بأن الفيلم الأخير (طعم الكرز، وبالفارسية «طعم غيلاس»)، الذي ألفه وأنتجه وأخرجه بنفسه، فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي لعام 1997.
وكان قبل هذا قد تم تكريمه في مهرجان سان فرانسيسكو السينمائي، بحصوله على جائزة المهرجان (أكيرا كوروساوا)، وحصل في 1999 على جائزة لجنة التحكيم الكبرى (الأسد الفضي) في مهرجان البندقية السينمائي.
وللذين لم يشاهدوا هذا الفيلم أو لم يسمعوا به نقول إنه فيلم بسيط من النوع غير المكلف الذي لم يستخدم فيه سوى الحد الأدنى من الممثلين والكاميرات والموسيقى والديكورات والمشاهد الخارجية، لكنه رغم ذلك أبهر النقاد والمحكمين وحظي بالكثير من الإشادات والقليل من الانتقادات.
فهو لئن وصفه الناقد الأمريكي «روجر ايبرت» بالفيلم الممل، وشبهه بطيار دون طائرة، فإن زميله ومواطنه الناقد «جوناثان روزينبوم» منحه الدرجة النهائية (4 من أربع نجوم)، كما قرر»معهد الفيلم البريطاني«في عام 2012 أنه من أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما.
يكمن روعة العمل في فكرته التي تدور حول الرغبة في الانتحار والموت، تخلصاً من الاكتئاب والإحباط، ومن حالة معيشية بائسة وصعبة وحياة غارقة في السواد. وعليه يضع بطل الفيلم»بديعي«الذي يجسد دوره»هومايون إرشادي«خطة لقتل نفسه بتناول حبوب مخدرة»، ويعد حفرة كي تكون قبره.
غير أن المشكلة تكمن في عدم عثوره على شخص يضعه في الحفرة ويهيل عليه التراب، كي لا يجد فرصة للتراجع في حال أنْ أفاق من تأثير المخدر.
وفي رحلة البحث عن هذا الشخص، يلتقي بجندي (قام بدوره الممثل سافار علي مرادي)، وطالب حوزة دينية (قام بدوره الممثل مير حسين نوري)، وعامل (قام بدوره الممثل أفشيد خورشيد بختياري)، ومحنط حيوانات (قام بدوره الممثل عبدالرحمن باقري). وعلى حين يرفض الثلاثة الأوائل مساعدته لأسباب مختلفة، يقبل محنط الحيوانات العرض لحاجته للمال من أجل علاج ابنه المريض.
وهكذا ينتهي الفيلم بذهاب البطل (بديعي) إلى الحفرة ويستلقي بها منتظراً محنط الحيوانات ليهيل عليه التراب، فيما يظهر في المشهد الأخير مخرج الفيلم وهو يشعل سيجارة لنفسه وللمخرج المساعد آمراً إياه بالراحة حتى يأتي محنط الحيوانات.
وبالعودة للمخرج «عباس كيارستمي»، نقرأ في سيرته أنه أخرج فيلماً وثائقياً بعنوان «رحلة إلى أرض المسافر» وهو في الخامسة عشرة، وأنه ترك منزل أسرته في سن الـ 18 والتحق بكلية الفنون الجميلة بجامعة طهران حيث درس الرسم وتصميم الغرافيك، وعمل أثناء دراسته شرطياً للمرور. ثم عمل رساماً ومصمماً وكاريكاتيرياً في مجال الدعاية والإعلان، ومؤلفاً لقصص الأطفال ما بين عامي 1962 ــ 1966.
تزوج في 1969 من مواطنته بروين جاهلي وأنجب منها أحمد وبهمن، قبل أن ينفصلا في 1982، وكانت أول تجربة سينمائية حقيقية له إنتاجاً وإخراجاً خلال حكم الشاه في مطلع السبعينات وهو فيلم «نان وكوجة» (الخبر والشارع) الذي يحكي قصة طفل مع كلب يواجهان العدوان بأسلوب واقعي جديد.
وبعد هذا الفيلم صار جزءاً من الموجة الجديدة في السينما الإيرانية فقدم أعمالاً لافتة مثل: «دافان داه»، «باشو»، «من هم مي توانم»، «رنك ها»، «لباس براي عروسي»، «به ترتيب يا بدون ترتيب»، «همسريان»، «همشهري»، «كلوز آب»، «مسافر»، «زنك تفريح»، وغيرها.