هناك من يكتب ويؤرخ لوطنه أو لشخصيات وعائلات من بلاده، من باب الشغف والهواية، وليس من باب التخصص الأكاديمي، ككاتب هذه السطور مثلاً، فيدخل بمحض إرادته في «عش الدبابير»، ويعرض نفسه للسع في صورة مناكفات واعتراضات وشكوى من قبل البعض المجلوب على الجدل والاعتراض على أمر هامشي لا قيمة له قياساً بالمحتوى العام للعمل المنجز، وهذا ما حدث لشخصية كويتية رائدة ومبدعة في مجالات الأدب والشعر والصحافة والتأليف وتقصي أخبار الزمان والمكان والشخوص، هو الأديب الكويتي الراحل المرحوم عبدالله خالد الحاتم.
لم ألتقِ الحاتم بسبب فارق السن، وميلاده وتألقه في زمن سابق لزمني، لكني اطلعت على العديد من مؤلفاته، بل واستفدت كثيراً من كتابه النفيس «من هنا بدأت الكويت»، الذي أصدره أولاً عن المطبعة العمومية بدمشق سنة 1962، ثم أعاد طباعته بمطبعة دار القبس بالكويت سنة 1980، وهو كتاب فريد في أسلوبه ومحتواه، حيث اكتنزت صفحاته الخمسمائة بأهم الأحداث والحكايات والمعارك والتطورات التي شهدتها الكويت منذ القرن التاسع عشر وحتى استقلالها سنة 1961، مع تخصيص صفحات كثيرة للحديث عن الحروب التي شهدتها الكويت، مثل: موقعة الرقعي والجهراء وحمض والصريف وغيرها، وعن بعض الشخصيات السياسية والأدبية والتجارية، مثل الشيخ مبارك الصباح، والشيخ أحمد الجابر، والحاج هلال المطيري، والأديب عبدالله الفرج، والشاعرين فهد العسكر وصقر الشبيب، والشاعرة موضي العبيدي، والمربي الشيخ يوسف بن عيسى الجناعي، والسيد سليمان السيد علي، وتاجر اللؤلؤ محمد العلي العصفور، والمربي السيد عاصم الأزميري، ناهيك عن تخصيص باب كامل للحديث عن تاريخ أوائل المهن والصناعات والمعالم الحضارية والأدوات العصرية التي دخلت الكويت، حيث نجد إجابات مفصلة عن أسئلة من نوع «ما أول صرح معماري في الكويت؟»، و«من أول حاكم للكويت؟»، و«كيف رسمت أول خريطة سياسية لها؟»، و«متى وكيف صنع أول علم خاص لها؟»، و«متى دخلت أول سيارة إلى الكويت؟»، علاوة على معلومات عن أول مسجد وسوق ونادٍ ومستشفى وجواز سفر وشعار وعملة ومجلة ومصرف وفندق ومطعم ومقهى ومقصب ومقبرة ومدفع وتلغراف وباخرة وهاتف ومذياع وثلاجة ومعمل مرطبات وماكينة خياطة.
ومعلومات عن أول مكتب بريد وجمعية خيرية وجريدة رسمية وإحصاء سكاني ومجلس شورى وشارع معبد ورصيف بحري ومطار جوي ومكتبة تجارية ومكتبة خاصة وديوان مطبوع وفيلم سينمائي وشركة تسجيلات ومؤتمر رسمي ومعاهدة حماية وإضراب طلابي وبعثة تعليمية إلى الخارج وتظاهرة شعبية ومؤامرة داخلية ورخصة قيادة وسيارة أجرة ومصور فوتوغرافي وغيرها.
وطبقاً لما ذكره ورثته في خطاب موجه إلى جريدة القبس في 22 أبريل سنة 2010 رداً على قارئ تحدث عن الحاتم بما لا يليق من أوصاف، متهماً إياه بالجهل والضغينة والعدوانية وإيراد معلومات مشكوك في صحتها ضمن كتابه آنف الذكر حول قصة دخول أول سيارة إلى الكويت قبل نحو مئة عام، فإن دوافع الحاتم وراء إصدار كتاب «من هنا بدأت الكويت» في عام 1962، أي بعد الأزمة التي فجرها الزعيم العراقي الراحل عبدالكريم قاسم صيف عام 1961 بمطالبته بالكويت، كان رداً على مزاعم الأخير وإثباتاً بالأدلة والوثائق أن الكويت نشأت كإمارة مستقلة عن العراق ولم تكن لها يوماً تبعية للعراق أو لغيره، علماً بأن أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر، وكان وقتها نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للخارجية، أشاد بعمل الحاتم واعتبره أكبر خدمة قدمت لقضية الكويت.
أبصر الأديب عبدالله بن خالد بن حمد الحاتم النور بالحي القبلي من العاصمة الكويت في عام 1916 ابناً لرجل ميسور الحال محب للعلم ومؤمن بأهمية التحصيل العلمي الحديث لجهة الارتقاء بالفكر، بدليل أنه ألحق ابنه (المترجم له) بأولى مدارس الكويت النظامية (المدرسة المباركية التي افتتحت رسمياً في عام 1911)، ثم بدليل أنه أرسله، بعد أن أتم مراحل تعليمه الأولى، إلى الزبير لتعلم اللغة الإنجليزية هناك بمدرسة النجاة الأهلية التي تأسست سنة 1920 على يد العالم الجليل الشيخ محمد أمين الشنقيطي (ت: 1932)، وكانت تدرس مواد غير دارجة، كالإنجليزية والعلوم المالية والإدارية والقانونية والشرعية.
عاش الحاتم سنوات في الزبير يدرس ويجتهد ويتلقى العلم النافع ويغرف من كنوز العراق الأدبية والثقافية ويتعرف إلى أعلام الشعر والأدب هناك. وبعد إتمام تعليمه هناك عاد إلى الكويت في عام 1932 ليتلقى علوم اللغة العربية وقواعدها ونحوها، علاوة على العلوم الدينية من حديث وفقه وتفسير على يد الشيخ الكويتي من أصول نجدية محمد سليمان الجراح (1902 ــ 1996).
بعد ذلك قرر الحاتم أن ينتقل إلى منطقة «حفر الباطن» بالمملكة العربية السعودية، حيث شعر هناك بالاستقرار النفسي ووجد فرصة لتعزيز ما تعلمه من أمور الدين واللغة العربية، فمكث سنوات عدة مارس خلالها الإمامة والخطابة بأحد المساجد ليعود مجدداً إلى الكويت في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين ويفتتح بها مكتبة لبيع الكتب مجسداً بذلك حبه الراسخ للكتاب، غير أنه لم يستمر في ممارسة بيع الكتب سوى سبع سنوات، وهجرها لضعف الإقبال على شراء واقتناء الكتب آنذاك بسبب تفشي الجهل من جهة، وضعف القدرات الشرائية للسواد الأعظم من المتعلمين من جهة أخرى، حيث باع مكتبته التجارية على أمل استثمار قيمتها في التجارة، لكنه ما لبث أن عاد إلى الأدب والقلم والكتاب والنشر.
في الثاني عشر من أكتوبر سنة 1950 أصدر الحاتم العدد الأول من مجلته الشهرية «الفكاهة»، وهي مطبوعة هزلية فكاهية نقدية تحاكي واقع المجتمع الكويتي في ذلك الوقت، وتنتقد بالكلمة والرسوم الكاريكاتيرية والأسلوب الساخر الظواهر السلبية. وقد أوكل مؤسسها وصاحب امتيازها رئاسة تحريرها لمواطنه الأديب فرحان راشد الفرحان، الذي يعد صاحب أول رواية كويتية مطبوعة، وهي رواية «آلام صديق»، التي صدرت سنة 1948، وذلك بسبب تزامن إصدار المجلة مع عمل الحاتم بدائرة الإرشاد والأنباء (وزارة الإعلام لاحقاً) مسؤولاً عن قسم الأرشيف، حيث أسهم من خلال وظيفته هذه في تطوير أرشيف دائرة المطبوعات والنشر.
أصبح لمجلة «الفكاهة» قراء ومتابعون كثر بسبب طبيعتها الساخرة التي انسحبت حتى على بياناتها، فمثلا: في خانة سعر النسخة كان يكتب «بالفلوس أو الوزن أو خرخش جيبك»، وفي خانة الشهر كان يكتب «محرم ولد عم أكتوبر أو الشهر ليس ربيع الثالث»، وفي خانة هاتف المجلة كان يكتب «متجمد من دون حرارة أو يرسل ولا يستقبل أو طاح وانكسر»، وهكذا.
بسبب تجربته الصحافية هذه وتعرضه بالنقد لبعض شخصيات المجتمع العامة تعرض الحاتم لضغوط لم يتحملها، فرحل إلى دمشق في عام 1954، حيث تزوج هناك وقام بمعاودة إصدار مجلته من سوريا بعد توقف دام ثلاث سنوات، فلقيت الاستحسان والقبول من المجتمع السوري لنشرها أخبار الفنانين والمشاهير مع صورهم الفوتوغرافية. وقد لوحظ آنذاك تضاؤل الأخبار والتعليقات عن المجتمع الكويتي في المجلة لبعد صاحبها عن وطنه. وبعد أن تغيرت قوانين المطبوعات في سوريا وصارت تراخيص طباعتها لا تعطى إلا للمواطنين السوريين، اضطر صاحبنا إلى إغلاق مجلته نهائياً وعاد إلى وطنه في عام 1959.
في الفترة التالية من حياته، وكانت الكويت قد حققت استقلالها الناجز في عام 1961، أسهم الحاتم في نوفمبر 1964 في تأسيس رابطة الأدباء الكويتيين التي تم إشهارها بقرار من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في 31 يناير سنة 1965، بل تولى في العام التالي (1966) منصب أمينها العام، ثم شغل منصب رئيس تحرير مجلة «البيان» الشهرية الصادرة عن الرابطة منذ عام 1966. وما بين هذا وذاك لم يتوقف الرجل عن الإسهام في الحركة الأدبية في وطنه عن طريق كتابة ونشر المقالات الأدبية والتراثية وحفظ الصور النادرة والمخطوطات وأرشفتها، ونظم القصائد النبطية.
من أهم أعماله، عدا كتاب «من هنا بدأت الكويت»: إعداد ونشر ديوان الشاعر الشعبي السعودي عبدالله بن حمود بن سبيل الباهلي (1272 ــ 1352 للهجرة) في عام 1984، وإعداد ونشر ديوان الشاعر السعودي النبطي الكبير محمد بن عبدالله القاضي (1224 ــ 1285 للهجرة) في العام نفسه، وترجمة ونشر كتاب الطبيبة الأمريكية «ليانور كالفرلي» زوجة القس أدوين كالفرلي الشهيرة بـ«الخاتونة حليمة» عن أيامها ولياليها في الكويت، وهو الكتاب الذي اختار له المترجم عنوان «كنت أول طبيبة» بدلاً من عنوانه الأصلي (My Arabian Days and Nights: A Medical Missionary in Old Kuwait) وأصدره عام 1968، وإصدار كتاب «خيار ما يلتقط من شعر النبط» في جزأين سنة 1968، وتأليف كتاب «عيون الشعر النبطي» في عام 1956.
كتب عن أفضاله على الأدب والشعر الأديب والكاتب السعودي عبدالله الجعيثن في جريدة «الرياض» السعودية (13/3/2017) تحت عنوان «بين مختارات أبي تمام الطائي ومختارات عبدالله الحاتم» فقال: «أما الأديب والشاعر عبدالله بن خالد الحاتم (ولد وتوفي في الكويت 1916 ــ 1995) فقد أسدى خدمة جليلة للشعر الشعبي بجمعه من مختلف مصادره، بما في ذلك المشافهة، في كتابه الشهير «خيار ما يُلتقط من شعر النبط»، وكتابه الآخر «عيون من الشعر النبطي»، ويمتاز الأول بشموله عدداً كبيراً جداً من الشعراء الشعبيين الكبار، وبعضهم قديم، مثل عرار بن شهوان آل ضيغم مات سنة (850هـ)، كما أنه يترجم لكثير من الشعراء قبل أن يُقدّم قصائدهم. وبالمجمل فقد خدم الحاتم مأثورنا الشعري خدمة جليلة وحفظه لنا في وقت مبكر وقام بنشره بجهود ذاتية ثم أقبل الناس عليه فأعاد طباعته مراراً».
في الرابع من فبراير سنة 1995 انتقل الأديب الحاتم إلى جوار ربه عن عمر ناهز 79 عاماً، بعد أن خلد اسمه في تاريخ الكويت بمؤلفاته المتنوعة وصحيفته الساخرة الفريدة من نوعها. وقتها أبّنته رابطة الأدباء الكويتيين بوصفه أحد رموزها الأوائل، قبل أن تقوم الرابطة بتكليف الأديب المؤرخ خالد سالم محمد الأنصاري بوضع كتاب عن حياته ومسيرته وعطائه بمناسبة اختيار الكويت عاصمة للثقافة العربية سنة 2001. وفي عام 2004، وبمناسبة إقامة مهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، تم تكليف الأديب الأنصاري من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بإعداد «منارة الأديب عبدالله خالد الحاتم».
وفي عام 2015 تم تكريم الفقيد مجدداً من قبل دار سعاد الصباح ضمن ثلة ممن سهروا ونقبوا وعملوا في مجال توثيق تاريخ الكويت من أمثال عبدالعزيز الرشيد، ويوسف بن عيسى القناعي، وسيف الشملان، وأحمد البشر الرومي.