تعد اليابان من أكبر حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، ومن أهم الدول التي تتقاسم معها التوجهات الليبرالية والرأسمالية، وهي من جهة أخرى تملك تاريخاً طويلاً من النزاعات حول الأراضي والمياه مع الصين وروسيا تعود إلى قرون مضت. لكنها تواجه اليوم معضلة كبيرة في تحديد أولوياتها، نتيجة لبعض المستجدات الجيوسياسية، مثل:
ــ اختلال ميزان القوى في محيطها الجغرافي بصعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية طامحة للعب دور كبير في المحيطين الهندي والباسفيكي.
ــ بروز كوريا الشمالية كقوة نووية وباليستية مشاغبة.
ــ احتقان علاقاتها مع جارتها الكورية الجنوبية على خلفية قضايا تاريخية معقدة، من زمن الحرب العالمية الثانية (قضية التشغيل الإجباري للمواطنين الكوريين، وقضية «نساء المتعة» الكوريات.
ــ ظهور بوادر حرب باردة بين حليفتها الأمريكية والصين محورها الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا ومضيق تايوان.
ــ التحالف الناشئ بين الصين وروسيا الاتحادية على خلفية الأزمة الأوكرانية.
أدت هذه المتغيرات في مجملها إلى قرع أجراس الإنذار في الدوائر السياسية والحزبية اليابانية بخصوص ما ينتظر هذا البلد الآسيوي من تحديات لم تكن متوقعة بهذه الصورة الجلية.
لقد استيقظت طوكيو على وضع خطير، خصوصاً مع تزايد التنافس الجيوسياسي، وانتشار الأوبئة المهددة للبشرية، والانقسامات المريرة في مجلس الأمن الدولي، والتغيرات المناخية، وتفاقم الأنشطة الإرهابية وعمليات القرصنة البحرية، لتجد نفسها مضطرة إلى تغيير أدواتها الدبلوماسية بهدف المحافظة على نظام إقليمي ينشد التنمية والسلام والمبادلات التجارية الحرة والأمن والاستقرار والاحتكام إلى القانون الدولي وحق الأمم في التنوع الثقافي والفكري.
والمعروف أن اليابان اختطت لنفسها، منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية، سياسة خارجية محورها النأي بنفسها عن الحروب والمغامرات العسكرية وسياسات التوسع، معطوفة على سياسات داخلية تنشد التنمية والازدهار في ظل نظام ديمقراطي قائم على التعددية السياسية والاقتصاد الرأسمالي، فكانت أن حققت صعوداً وبروزاً في العالم وفي محيطها الإقليمي بحيث باتت نموذجاً للآخرين ومرشحة لممارسة دور دولي من خلال مجلس الأمن متى ما تم الاتفاق على إحداث تغيير في هياكل الأمم المتحدة. وهي لئن تراجعت اقتصادياً إلى المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والصين في العقود الأخيرة، إلا أنها حافظت على وهجها الاقتصادي والتكنولوجي والصناعي، ناهيك عن محافظتها على موقعها كأحد الأقطار الأكثر مساهمة بالقروض والمعونات والهبات لصالح الأقطار النامية. وإذا ما تتبعنا خطوط السياسات الخارجية لليابان في السنتين الأخيرتين نجد أن بعضها تكرار لما التزمت وعملت من أجله طويلاً، والبعض الآخر استدعته التطورات والمتغيرات الجديدة في عالم اليوم. إذ نجد في طياتها مثلاً:
ــ الدفاع عن نظام عالمي حر وتعزيزه بالتأكيد على الانصياع لمبادئ القانون الدولي، ترسيخ مبادئ التجارة الحرة والاقتصاد الرأسمالي، تعزيز دور الأمم المتحدة في حل الأزمات الدولية سلمياً.
ــ رفض كل أشكال العنف والتدخل في شؤون الدول الأخرى وتغيير الأوضاع القائمة بالقوة أو التهديد باستخدامها، وحق الدول النامية في انتهاج السياسات المؤدية إلى رفاه ونماء شعوبها دون ضغوط خارجية. ومن تلك المنطلقات والمبادئ راحت الحكومة اليابانية تؤكد في العام المنصرم (2023) على:
ــ إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا باعتباره من أعمال الاعتداء على مبادئ القانون الدولي والنظام العالمي (خصوصاً وأن آثاره امتدت إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ والشرق الأوسط وأفريقيا في صورة ارتفاعات في أسعار الوقود والغذاء وتزايد الأكلاف والأعباء على الدول الفقيرة النامية).
ــ رفض سياسات التوسع والهيمنة التي تنتهجها دول كبرى، لاسيما مساعي وخطط الصين للهيمنة على ممرات مائية دولية وجزر صغيرة متنازع عليها في المحيطين الهادئ والهندي (خصوصاً وأن تلك الممرات المائية تشكل قناة حيوية لتجارة اليابان مع الشرق الأوسط وأفريقيا).
ــ مساندة أي خطوات ومشروعات دولية أو إقليمية ذات صلة بالأمن والاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط، من منطلق ما تشكله المنطقة من أهمية قصوى لليابان لجهة التجارة والواردات النفطية (تستورد اليابان نحو %90 من احتياجاتها النفطية من دول شرق أوسطية)، خصوصاً وأن اليابان تأثرت كثيراً بما شهدته المنطقة من حروب وصراعات وأزمات في العقود الماضية.
ــ بناء ونسج علاقات شراكة اقتصادية واستراتيجية أمتن مع الهند باعتبارها تمثل نموذجاً ديمقراطياً مشابهاً في الكثير من الخطوط مع النموذج السياسي الياباني، ناهيك عن ثقلها في موازين القوى الاستراتيجية، وكونها اقتصاداً صاعداً وشريكة موثوقاً بها في مسائل الأمن والسلام وضمان استقرار المحيطين الهندي والهادئ ومحاربة القرصنة البحرية والإرهاب.
ــ مواصلة ما بدأته منذ عام 1993 من اهتمام ودعم تنموي للقارة الأفريقية، تجلى في إطلاقها «مؤتمر طوكيو للتنمية الأفريقية» (تيكاد TICAD)، علماً أنه في دورة المؤتمر الثامنة في أغسطس 2023 أطلقت اليابان رسالة قوية مفادها أنها سوف تعمل على إطلاق مبادرات لصالح أفريقيا وشعوبها بأساليب يابانية جوهرية، من أجل خلق «أفريقيا المرنة».