قد يبدو غريباً للبعض أن يقوم رئيس تايواني، وإن كان رئيساً سابقاً، بزيارة إلى الصين. لكن هذا ما حدث بالفعل في أبريل الفائت، حينما قام «ما ينغ جيو» (رئيس تايوان السابق من 2008 إلى 2016) بزيارة بكين وعقد اجتماعاً مطولاً مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، علماً بأن الرجلين اجتمعا من قبل في سنغافورة في نوفمبر 2015، في لقاء تاريخي كان هو الأول من نوعه منذ انتصار الحزب الشيوعي الصيني وسيطرته على البر الصيني سنة 1949.

أما الغريب حقاً، فهو أن يقوم «ما ينغ جيو» بنفسه بهذه الخطوة، وهو من كبار رموز حزب الكومينتانغ، الخصم اللدود للحزب الشيوعي الحاكم في بكين، وأحد أبرز مساعدي الماريشال تشيانغ كاي شيك مؤسس تايوان ورئيسها من 1949 إلى 1975.

ويزول الاستغراب حينما نعلم أن تغير الظروف الجيوسياسية والهزائم الانتخابية المتتالية لحزب الكومنتانغ، الذي يعد اليوم ثاني أكبر أحزاب تايوان بعد الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم، أملت على قادة الكومينتانغ التقرب من بكين باتخاذ مواقف سياسية أقل حدة ضدها لجهة حديثها عن حقها في السيادة على تايوان. ومثل هذه المواقف المضادة لسياسات الحزب الحاكم في تايبيه لها أنصار داخل تايوان من أولئك الذين يعارضون بالتأكيد ضم بلادهم قسراً إلى الصين، لكنهم في الوقت نفسه يعارضون التحرش ببكين خوفاً من حرب غير متكافئة تعصف بكل ما حققوه من تقدم ونهضة خلال العقود الماضية.

ومما لا شك فيه أن براغماتية القيادة الصينية دفعتها إلى نسيان الماضي وتأييد النهج الجديد لحزب الكومينتانغ، بل ودعم مرشحي الأخير في الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تايوان، أملاً في إسقاط أعداء بكين من مؤيدي الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يتبنى فكرة إعلان استقلال تايوان من جانب واحد.

ومن هنا يفهم سر الحفاوة التي قوبل بها «ما ينغ جيو» في بكين، لكن دون إشارة إلى أنه رئيس سابق لتايوان، والاكتفاء باسمه مجرداً من أي لقب. ومن هنا أيضاً يفهم سر الكلمات الودية التي تبادلها الضيف مع مضيفه شي جين بينغ. حيث قال ما مفاده أن الأمة الصينية لا تستطيع تحمل اندلاع حرب في مضيق تايوان، وأن على قادة الجانبين التصرف بحكمة للحفاظ على السلام والاستقرار من أجل مواصلة التنمية. وهذا الكلام يشبه ما قاله سابقاً في يناير 2024 من أن أفضل نهج هو التواصل والتعاون مع الصين لأن تايوان لا يمكنها الانتصار أبداً في أي حرب مع الصين، وأنه يتعين على تايوان تجنب زيادة نفقاتها الدفاعية منعاً لاستفزاز الصين.

وقد رد عليه مضيفه قائلاً: «لا يوجد شيء يستحيل على الناس في جانبي مضيق تايوان مناقشته، ولا توجد قوة يمكنها أن تفصل بينهم»، مضيفاً ما مفاده أنه طالما البلاد غير مقسمة، وكلا جانبي مضيق تايوان صينيان وأسرة واحدة، فإنه بالإمكان الجلوس معاً والتواصل مع بعضنا البعض من أجل التعايش السلمي، وتعزيز العلاقات البينية بصورة سلمية وفقاً لتوافق عام 1992.

وتوافق 1992 تم التوصل إليه في تلك السنة في تايبيه خلال اجتماع ضم ممثلين شبه رسميين من الحزب الشيوعي الصيني وحزب الكومنتانغ، وكان مضمونه تأكيد الطرفين أن كلا جانبي مضيق تايوان ينتميان إلى «صين واحدة» تمثلها جمهورية الصين الشعبية فقط، وهذا ما تتمسك به بكين وترفعه في وجه التايوانيين من دعاة الانفصال، وهو أيضاً ما رفض الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايبيه الاعتراف به.

جملة القول، إن «ما ينغ جيو» قام، دون أن يتمتع بأي صفة رسمية، ودون أن يخوله أحد، بخطوة أراد منها تحقيق أمرين أولهما: تخفيف حدة التوتر في مضيق تايوان التي تفاقمت في الأشهر الأخيرة، على خلفية الدعم الأمريكي العسكري لتايوان واختراق طائرات سلاح الجو الصيني للأجواء التايوانية مراراً، وثانيهما هو تأكيد دور حزب الكومنتانغ في تقرير مصير الدولة التي بناها مؤسس الحزب والتودد لطائفة من التايوانيين من دعاة السلام والاستقرار وتجنب استفزاز الصين.

غير أن ردود الأفعال على مساعيه وخطواته في الداخل التايواني لم تكن مشجعة كثيراً. إذ لوحظ أن زيارته لبكين أثارت جدلاً داخل أروقة الكومنتانغ ما بين مؤيد ورافض، بدليل أن رئيس الكومنتانغ «إريك تشو» فضل التواري عن الأنظار بأخذ إجازة عائلية تفادياً للتعليق على الحدث، والمعروف أن الأخير كانت له في السابق مواقف مؤيدة للتقارب مع قادة الصين الشيوعيين، لكنه بدا في السنوات الأخيرة محبذاً للاقتراب من الولايات المتحدة والابتعاد عن الصين.