يشهد العالم، ومنذ فترة، انعدام مركز الثقل. كانت الولايات المتحدة تشكل مركز الثقل منذ الحرب العالمية الثانية، وبروز الأخيرة كقوة عالمية مهيمنة. ولكن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، جعلت واشنطن تتبنى مواقف مخالفة لأسس النظام الدولي التي صاغته على قواعد ليبرالية.
التجارة الحرة والقوانين والأعراف الدولية، شكلت لَبِنات النظام العالمي. ومع اشتداد الحرب الباردة مع موسكو، بدأت واشنطن تنخر هذه اللبنات، عبر خرق القواعد والقوانين الدولية. وشرعت الدولة المهيمنة بتدخلات سافرة في شؤون الدول الصغرى، في سبيل تحقيق انتصارات على العدو الشيوعي، ضاربةً عرض الحائط بكثيرٍ من المبادئ التي تتبناها. والغريب في هذا الإطار، أنَّه كلَّما تقدَّمت الولايات المتحدة في تحرير نظامها الداخلي، عبر إقرار الحقوق المدنية للأقليات العرقية والدينية والثقافية، وكلَّما توسَّعت في توسيع دائرة المشاركة السياسية في الداخل، زادت شراسة تدخلاتها الخارجية.
وعندما وصلت مرحلة القطبية الأحادية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، باشرت واشنطن في استعراض عضلاتها في كل المناطق، من البلقان إلى بلاد الرافدين. وقد استهلَّت هذه الحالة من القطبية الواحدة بعد تحرير الكويت، حيث صدح الرئيس جورج بوش الأب، بأنَّ عقدة فيتنام ولَّتْ بلا رجعة، وأنَّ ما نقوله يسري.
هذه كانت الحالة السياسية والذهنية لواشنطن، حين هاجم الإرهاب عقر دارها في الحادي عشر من سبتمبر. حينها كسبت الولايات المتحدة تعاطفاً عالميَّاً، بسبب الهجوم الإرهابي لـ «القاعدة». حتى إن الصحيفة الفرنسية «لوموند»، عنونت في صفحتها الأولى في اليوم التالي للهجوم الإرهابي، عبارة «نحن جميعاً أمريكيون».
وللأسف، فبدل أنْ تستخدم واشنطن الرأسمال السياسي والأخلاقي والتعاطف العالمي الذي جنته جرَّاء العدوان الإرهابي، لصياغة نظام عالمي جديد، يخدم المصالح الأمنية والاقتصادية لكافَّة الدول، هرعت إلى الانتقام. ودون أخذ مشورة أو موافقة الأمم المتحدة، والتي كان من المؤكد أنْ تحصل عليها، غزت أفغانستان، وحقّقت انتصاراً سريعاً على طالبان، وطاردت «القاعدة» في جبال تورا بورا.
ولكن النصر السريع في أفغانستان، وتسيّد العالم كقوة أحادية، زاد من غرور الاستراتيجيين في واشنطن، وقد دان لهم العالم أكثر من الإمبراطورية الرومانية، أو أي إمبراطورية من قَبْلُ ومن بعد، رأى صقور الإدارة، وخاصَّةً المحافظين الجدد، أنَّ الطريق إلى بغداد سالك، فلطالما حلموا بذلك. ليس هناك قوة عظمى ستعترض الولايات المتحدة في سبيل تحقيق مرامها.
وأصَرّ المحافظون الجدد أنّ تحرير العراق من طغيان صدام، سيحرر المنطقة من الحكومات غير الديمقراطية. وغرقت الولايات المتحدة في وحل التَّدخل في العراق، وما انفكت إلَّا وهي تجرُّ هزيمةً استراتيجية، ورضت من الغنيمة بالإياب!
رَدَّةُ الفعل الشعبية، كانت قوية لحربي واشنطن في العراق وأفغانستان، والتي انسحبت منها كذلك مؤخراً. وأصبحت المعارضة الشعبية قوية للتدخلات الخارجية. هل سينجح التيار الانعزالي في تحييد دور الولايات المتحدة في العالم. هذا التيار أصيل في التاريخ الأمريكي، حيث ساد في فترة ما بين الحربين العالميتين.
إذا ما قيض للولايات المتحدة الانعزال، من سيلعب دور القائد للنظام العالمي؟ الصين مقتدرة، ولكن غير راغبة، على ما يبدو. وروسيا لها الرغبة، ولكن غير مقتدرة على إدارة دفّة العالم. فهل نحن ماضون إلى حالة فريدة في التاريخ، وهي انعدام القطبية.