وأنا أبحث عن فكرة للمقال، تذكرت محاضرة للدكتورة نورهان الشيخ أستاذة العلاقات الدولية في جامعة القاهرة والمتخصصة في الشأن الصيني والشأن الروسي، حيث واكبت المحاضرة زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين في منتصف مايو الحالي، وهي الزيارة الخارجية الأولى لفترة الرئيس بوتين في عهده الجديد.
ويمكن تلخيص المحاضرة -الممتعة فكرياً- في عنصرين اثنين لهما علاقات بمجريات الأحداث الدولية وحالة الشد والجذب بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا. ومع أن المحاضرة كانت تركز على الدور الصيني في العالم بدءاً من إقليمها الجغرافي في بحر الجنوب وتايوان (الجزيرة التي ترى الدكتورة أنها مسألة وقت كي تعود للسيادة الصينية)، مروراً بآسيا ومنطقة الشرق الأوسط خاصة منطقة الخليج العربي وأفريقيا وصولاً إلى أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية الحديقة الخلفية للولايات المتحدة التي كانت مغلقة على الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن لا يبدو الأمر كذلك أمام «التمدد الصيني الصامت» حالياً. والعنصران هما:
الأول: الدلالات التي حملتها زيارة الرئيس بوتين بعد تأدية اليمين الدستورية إلى خارج بلاده وهي في «العرف الدبلوماسي» لها معانٍ وتفسيرات مهمة بالنسبة للمراقبين.
فكانت الزيارة بمثابة ترسيخ للشراكة الاستراتيجية بين البلدين لاسيما ما تحمله في المقابل من رسائل سياسية معنوية للغرب وبوجه أخص الولايات المتحدة. وقد استخدمت الدكتورة في محاضرتها صورة معبرة عن حالة الشراكة بين البلدين وهي: حالة عناق بين الدب القطبي الروسي الشرس مع دب الباندا الصيني الهادئ، على خلاف ما هو معروف عن أيقونة الصين بأن شعارها هو: الكائن الأسطوري التنين والذي يفترض أنه يعطي إشارة مختلفة عن حيوان «الباندا» في التعامل الخارجي. فنحن إذاً، أمام إعلان حقبة جديدة من الشراكة بين أقوى دولتين منافستين للولايات المتحدة الأمريكية، لهذا فإن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة لن تتجاهل تبعات هذه الزيارة.
العنصر الثاني: ما يعرف في العلاقات الدولية ديناميكيات التعامل بين القوى المتنافسة حيث تتشابك وتختلف حسب المصالح.
ففي الوقت الذي يسعى فيه الغرب نحو العمل على عزل روسيا بوتين من خلال فك الارتباط مع الصين من خلال إقناع الرئيس شي جين بينغ، ليس فقط بإدانة روسيا لشنها حرباً على أوكرانيا، وإنما محاولة فصل العلاقة الشخصية بين القائدين (كما حصل في سبعينيات القرن الماضي). إلا أن القيادة الصينية تدرك أن المستهدف الأول من كل ما تفعله الولايات المتحدة، ليس روسيا بالدرجة الأولى، إنما الصين صاحبة الطموحات في عهد الرئيس شي، فهي الخصم الأكثر خطورة من روسيا على المدى البعيد.
هنري كيسنجر مهندس السياسة الخارجية الأمريكية الراحل حذر من أن تدفع السياسات الغربية بالرئيس بوتين إلى أن يتحالف مع الصين، ولكن يبدو أن مخاوفه بدأت تتحقق، فميزان القوى العالمي يبدو أنه سيكون أكثر ترجيحاً ناحية الصين.
بجانب صورة تعانق بين الدبين «القطبي والباندا» التي استعرضتها الدكتورة نورهان الشيخ في بداية المحاضرة لتفسير عمق الشراكة بين البلدين، فإن دفء الاستقبال الذي حظي به الرئيس بوتين فهو بمثابة شهادة اعتراف بصلابة الموقف وليس فقط بين الشخصين (بوتين وشي) وإنما بين البلدين، فهذان الاثنان يؤسسان لعلاقة ممتدة وأكثر تفاهماً وكذلك لاستقرار العالم، على عكس ما تفعله السياسة الأمريكية.
إن الشراكة الصينية-الروسية تتطور وتتعمق مع مرور الوقت بشكل كبير وفي كل المجالات الاستراتيجية، وليس في مجال الطاقة فقط بعد أن استغنى الغرب عن النفط والغاز الروسيين. ورغم أن الكفة الصينية هي الأرجح في هذه الشراكة، إلا أن الإحساس بـ«الظلم الأمريكي» هو عامل مشترك ويساعد على تقوية العلاقة في مواجهة الرغبة الأمريكية للحفاظ على نفوذها العالمي، فإذا كان حلف الناتو لعرقلة الطموحات الروسية، فإن التحالفات الأمريكية مع دول جنوب شرق آسيا والمحيطين الهندي والهادي ليس لتطويق روسيا وإنما الصين.