لأجل وضع حد لتدافعهم ومنافساتهم الاستعمارية في رحاب القارة الأفريقية، التي تفاقمت في أواخر القرن التاسع عشر إلى درك الاشتباكات الخشنة الدامية أحياناً، عقدت 13 دولة أوروبية ما عرف بمؤتمر برلين الأول بين نوفمبر 1884 وفبراير 1885. ومع أن المؤتمر تعلق بمصير القارة، البلاد والعباد والثروات، إلا أنه خلا من وجود أو مشاركة أي كيان أفريقي أصيل.
بعد مزايدات ومناقصات، تعاهد المؤتمرون على منح أي عضو منهم «حق استباحة أي جزء من القارة لم يكن قد استبيح من قبل، شريطة إبلاغ الأعضاء الآخرين».. تلا ذلك موجة كبرى من توغل الأوروبيين في أحشاء أفريقيا، بحيث تمكنت سبع دول منهم (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وأسبانيا وبلجيكا)، من السيطرة على 93% من مساحتها.
في غمرة مظاهر الاستقواء المغلفة بثقافة الاستعلاء، لم يعبأ الأوروبيون بتوابع وتأثيرات عملياتهم الجراحية، المدفوعة بتقديراتهم لمصالحهم الذاتية لا غير، على رؤى الآخرين أو كينوناتهم، لم يلحظوا أنهم يضطلعون بإعادة هيكلة وتقسيم وتقاسم لبنى إنسانية، فكرية ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، لأمم وشعوب وقبائل متجذرة، في قارة تفوق جغرافيتها ثلاثة أمثال مساحة قارتهم العجوز.
بفعل كثير من المستجدات والمتغيرات، التي توالت على النظام الدولي غداة الحرب العالمية الثانية، ومنها موجات التحرير، نال الأفارقة استقلالهم في دول قامت حدودها جوهرياً على هدي الخطوط التي اشتقها الأوروبيون من قبل، وكانت نتيجة هذا الإرث الموبوء، أن وقعت معظم هذه الدول في أحابيل نزاعات ومناكفات داخلية وبينية منكودة، التهمت في طريقها الكثير من الأنفس والموارد.
القصد، أن فكرة تقسيم فلسطين لم تكن طارئة عن العقل الثقافي السياسي الأوروبي، أو الغربي بعامة، فالذين استمرأوا في برلين تقسيم وتقاسم قارة بقضها وقضيضها، بمعزل عن إرادة أصحابها.. ثم فعلوها لاحقاً مع إرث الدولة العثمانية في اتفاقية سايكس بيكو (1916) ومؤتمر سان ريمو (1920)، سهل عليهم أكثر بكثير تقسيم فلسطين.
بصيغة أخرى، كانت فكرة تلاعب العواصم الغربية، المتربعة على قمة النظام الدولي، بالجغرافيا والديموغرافيا في عوالم الجنوب بالذات، بحسب خرائط تعني فقط بمصالحها المادية الاستراتيجية الآنية أو المستقبلية، متوفرة وفي متناول اليد من حيث النظرية والتطبيق.. وذلك من قبل أن تعمد إلى تصديرها في النموذج الفلسطيني.
لم يستشر مؤتمرو برلين الأفارقة ولا اكترثوا بمواقفهم أو بأحلامهم أو بمواريثهم الحضارية.. هذا على حين كان لعرب فلسطين آراء ومداخلات رافضة للرؤية الغربية الصلبة بشأن اقتطاع بلادهم برمتها لليهود أو تقاسمها معهم.. لكن المحصلة كانت واحدة، وخلاصتها فرض التقسيم والتقاسم في النموذجين الأفريقي والفلسطيني. في الأول، بمنطق قوة الأمر الواقع.. وفي الثاني، بالتوسل بالمنطق ذاته، مضافاً إليه استيراد قطاعات يهودية من الخارج لتصنيع كتلة سكانية وازنة، واستغلال النفوذ ولي عنق القوانين الدولية لتمرير قرار التقسيم في الأمم المتحدة (29/11/1948 ).
في المداولات الموصولة بذلك القرار، ذهب الفلسطينيون والعرب وغيرهم من أصحاب النوازع والتشوفات العقلانية، بما في ذلك قطاعات ورموز غربية، وكذا من اليهود غير الصهاينة، إلا أنه لن ينفذ إلا بالقوة.. وسيؤسس لتعقيد الصراع داخل فلسطين ومحيطها الإقليمي، وأكدوا أنه لا يعد عموماً بحل ناجع لما يعرف بـ«المشكلة اليهودية»، بمثل ما أنه لا يلتزم بسبل العدل والإنصاف مع أهل فلسطين الأقحاح.
العالم كله يشهد اليوم بصدقية حدس الرافضين له والمستنكرين لفكرته وقتذاك. ندفع بذلك وفي الخاطر أن الحرب الممتدة في فلسطين، لم تبدأ بعد إعلان قيام إسرائيل يوم 15 مايو1948، وإنما اشتعلت بواكيرها منذ اليوم التالي لصدوره عن الجمعية العامة برقم 181.
الشاهد أن السير التاريخية المريرة للنماذج التي خضعت لفكرة التقسيم العشوائي للأقاليم وفق المنظور الغربي، القائم منها كما هو الحال في أفريقيا وفلسطين وغيرها، والآفل مثلما حدث مثلاً مع ألمانيا وفيتنام، تثير إلى حد كبير الاعتقاد بخطل هذه الفكرة من الأساس.. كيف لا وقد أفضت في سياقها الفلسطيني، إلى زوال فرص إقرار السلم والأمن منذ لحظة إقرار التقسيم في صورته الأولى، وكذا شحوب احتمال تطبيق صورته المعدلة لاحقاً، المعروفة راهناً بـ«حل الدولتين».. وهو الحل الذي ينطوي على آخر الآمال لوقف نزيف الدم، ومنع تأبيد الصراع في هذا السياق ومحيطه الإقليمي.