المعروف تاريخياً أن الإمبراطورية العُمانية امتدت من بحيرات وسط أفريقيا غرباً إلى مشارف شبه القارة الهندية شرقاً، والمعروف أيضاً أن الوجود العُماني في شرقي أفريقيا بدأ تجارياً قبل وفي أثناء حكم اليعاربة في القرن السابع عشر الميلادي. وتقول الباحثة العُمانية في التاريخ أحلام بنت حمود الجهورية في مقال في صحيفة الأثير العُمانية الإلكترونية، إن سكان الساحل الشرقي لأفريقيا تقدموا بطلب المساعدة لتحريرهم من الغزاة البرتغاليين، فلبت دولة اليعاربة بقيادة سلطانها آنذاك الإمام سلطان بن سيف الأول اليعربي النداء ونجحت في إنهاء الاحتلال البرتغالي في سنة 1698 وتأسيس الحكم العربي ونشر الدين الإسلامي واللغة العربية والنهوض بمجتمعات المنطقة، وذلك عبر حملات بحرية متتابعة.
وحينما أفل حكم اليعاربة لعُمان وبدأ حكم آل بو سعيد في القرن 18م، أدرك الحاكم الأول وهو الإمام أحمد بن سعيد سلطان عُمان وزنجبار وملحقاتها أهمية تعزيز سلطته في شرقي أفريقيا وربط الأخيرة بالوطن العُماني ومقاومة أي محاولات انفصالية، فتحقق ذلك في عهد السلطان سعيد بن سلطان، وخصوصاً بعدما نقل الأخير عاصمة بلاده إلى زنجبار، وقد أدى استقراره في زنجبار إلى قيام نهضة حضارية في مختلف الجوانب، ويمكن رؤية التمازج الحضاري للعُمانيين في شرقي أفريقيا عبر فن العمارة، واللباس، والعادات والتقاليد.
والحقيقة أن السلطان سعيد بن سلطان الذي حكم من سنة 1804 وحتى سنة 1856، استطاع بفضل نفوذه السياسي وشعبيته وقوة أساطيله البحرية بناء إمبراطورية مترامية الأطراف هي الأوسع في تاريخ عُمان الحديث، حيث شملت أراضيها كل الساحل الشرقي لأفريقيا من الصومال إلى حدود موزنبيق، وداخلياً إلى منطقة البحيرات العظمى، مع امتداد نفوذها السياسي في الشمال الغربي إلى مملكة أوغندا، وغرباً إلى أعالي الكونغو (زائير حالياً)، ولهذا توصف فترة حكمه بالفترة الذهبية في التاريخ العُماني.
وبوفاته في سنة 1856 في طريق عودته من عُمان إلى زنجبار، على متن الفرقاطة «كوين فيكتوريا» تم تقسيم الإمبراطورية العُمانية إلى دولتين؛ فأصبح القسم الأفريقي (زنجبار وما حولها) من نصيب ابنه ماجد بن سعيد، بينما أصبح القسم الآسيوي (عُمان وملحقاتها) من نصيب ابنه الآخر ثويني بن سعيد الذي كان ينوب عن والده في حكم عُمان منذ سنة 1833. وهكذا ظل أبناء وأحفاد ماجد يتوارثون حكم زنجبار وشرقي أفريقيا حتى انتهاء الحكم العربي فيها في سنة 1964.
ما سبق كان تمهيداً للحديث عن شخصية عُمانية تكاد تكون مجهولة للكثيرين وهي عبيد الله بن سالم الخضوري، الذي ولد ونشأ في قرية طيوي في ولاية صور الواقعة على ضفاف بحر عُمان وذات الذكر المتكرر في مؤلفات الرحالة الغربيين، والتي أنجبت العديد من الملاحين والنواخذة والمغامرين ممن جابوا البحار ووصلت سفنهم وأساطيلهم الشراعية إلى أقاصي أفريقيا وبلاد الهند والسند على نحو ما أكده بالتفصيل المؤرخ والأكاديمي الأمريكي «روبرت جيران لاندن» في كتابه «عُمان منذ سنة 1856 مسيراً ومصيراً» الذي حققه وترجمه إلى العربية محمد أمين عبدالله بستكي.
ولد الخضوري وعاش في القرن الثامن عشر الميلادي، واشتغل كغيره من أبناء صور في التجارة، ولكنه تميز عنهم بالتخصص في تجارة العاج ما جعله يقدم على مغامرة خطرة لاستكشاف أدغال أفريقيا وغاباتها، وخصوصاً أن بلاده كانت تحكم مساحات شاسعة من شرقي أفريقيا في تلك الفترة، ناهيك عن أن مواطنيه اعتادوا منذ القدم الإبحار صوب تلك الديار والنزول إلى سواحلها والاختلاط بسكانها، بينما خالف الخضوري غيره من العُمانيين، فلم يقصد زنجبار وممباسا وما حولهما، وإنما توجه إلى بلاد الكونغو (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) الواقعة في وسط أفريقيا مع لسان ممتد نحو الساحل الغربي للقارة.
وهكذا وصل الرجل في بداية رحلته الاستكشافية لتلك المجاهل إلى قرية «نيانغوه» الكونغولية، وكان بصحبته اثنان من أصدقائه وهما العُمانيان ناصر بن سيف المعمري وعيسى بن عبدالله الخروصي، وبعض الخدم، علاوة على صاحبه الأفريقي حمد بن أحمد الأنجزيجي الشهير بـ«كبونغا»، ويعتقد أن الخضوري ورفيقيه سمعوا عن تلك الديار من سعيد بن محمد العيسري وحبيب بن سالم العفيفي اللذين كانا أول من دخلا الكونغو من العرب بصحبة خادمهما «سيتقة»، واكتشفا مناجم الذهب فيها، وقد ورد الجزء الأخير في كتاب «جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار» لمؤلفه الموثوق به سعيد بن علي المغيري (حامل وسام الكوكب الزنجباري من الدرجة الثانية ومرافق السلطان خليفة بن حارب في رحلاته إلى أوروبا ومصر)، والذي يعد كتاباً لا غنى عنه للباحثين والمؤرخين والدارسين للوجود العُماني في أفريقيا، ودورهم الحضاري فيها.
ومما ورد في هذا الكتاب، يبدو أن ذهاب الخضوري وصحبه إلى الكونغو كان في مركب واحد مع آخرين؛ ففي حين نزل الخضوري والمعمري والخروصي في قرية نيانغوه من أعمال الكونغو، نزل الآخرون مثل جمعة بن سالم البكري من أهل نزوى في مكان آخر يدعى «كومب» وهو من أعمال الكونغو أيضاً، ويقول مؤلف الكتاب شارحاً إن الخضوري وصحبه قرروا أن يكتشفوا الشط المسمى «قراوة» مع البر المتصل به، فساروا إلى الغرب مدة ستة أشهر، وهم يقطعون الشطوط واحداً تلو آخر ويجوبون الغابات والجبال بين السباع الضارية والفيلة العظيمة وسائر الوحوش المساورة. ويضيف إن سكان البلاد لما رأوا هؤلاء العرب المختلفين عنهم لوناً ولباساً وشكلاً سألوهم بفضول ودهشة عن هويتهم عما أتى بهم إلى تلك الديار، بل إن بعضهم تساءل إن كانوا من سكان القمر أو هبطوا من السماء؟
واصل الخضوري وصحبه طريقهم إلى أن بلغوا فضاء رحباً قرب الشط يسمى «كروندو» فنزلوا به ونصبوا خياماً تقيهم حرارة الشمس وهطول المطر وتوفر لهم الراحة من بعد عناء. وبعدما استراحوا بدؤوا استكشاف ما حول المكان فوجدوا العاج ملقى كأنه حطب فصاروا يجمعونه، وعرفوا أن سكان البلاد من الزنوج غير مدركين قيمة العاج، وأنهم يصطادون الفيلة ويأكلون لحمها ويرمون عظامها وعاجها بعيداً، وأنه في حالة موت الفيلة يتركونها ميتة ولا يكترثون بسحب ضروسها العاجية.
ولما رأى الزنوج أن هؤلاء الأغراب المختلفين عنهم في أشكالهم ولباسهم يجمعون العاج سألوهم: ماذا تريدون من هذه العظام ونحن قد أكلنا لحمها وهي لا تصلح لبناء البيوت، فأجابوهم نحن في حاجة إليها. وهكذا راح بعض الزنوج من قبيلة تدعى «بوكوسو» وأخرى مجاورة تدعى «وسنقوره» يساعدونهم على جمع العاج من الصحاري والغابات.
وبحسب مؤلف الكتاب، فإن هؤلاء العُمانيين مكثوا في «كروندو» سنة كاملة يجمعون العاج حتى كونوا منه تلالاً ضخمة إلى درجة أن عبيد الله بن سالم الخضوري كان يصعد إلى أعلاها بسلم، أو يأخذ بساطه ويفرشه في ظلال تلك التلال ويستلقي عليه فرحاً وهو يغني ويحلم بيوم عودته إلى قريته في صور محملاً بهذه الثروة. ويقول المؤلف إن أحد رفاق الصوري سأله مستغرباً، لما رآه على هذه الحالة: «ما لك تغني يا عبيد ونحن في هذا المكان الموحش غائبين عن ديارنا وأهلنا أشهراً طويلة، ولا ندري تحت أي سماء نحن؟ فأجابه الخروصي: إذا نجانا الله بما لنا من هذه الأرض ووصلنا إلى الساحل بالسلامة مع الذي حصلنا عليه فحسبنا من الدنيا وكفى.
ويبدو أن بعض السكان الزنوج لم يرق لهم وجود هؤلاء الأغراب بينهم، وعزموا على البطش بهم وقتلهم، ولكن كبيراً من كبرائهم استمهلهم بعض الوقت قائلاً: أمهلوني حتى أسألهم عن مرادهم من الإقامة بيننا، وأتعرف إلى سلاحهم وفاعليته إذ إن همه الأول كان منحصراً في التعرف إلى نوع السلاح الذي مكن الخضوري وصحبه من اختراق أراضي الكونغو وغاباتها بنجاح من دون تعرضهم لافتراس الحيوانات الكاسرة.
وجه الزعيم القبلي السؤال للعُمانيين، فأعدوا له ولمواطنيه الزنوج في اليوم التالي عرضاً للسلاح بقصد ترهيبهم، ولم يكن السلاح في حوزة العُمانيين سوى بندقية تسمى قومه قومه ذات رصاص بحجم الليمونة الصغيرة، وهكذا استعرضوا أمام الجمع الأفريقي مهارتهم في التصويب فرموا هدفاً معداً، ونجحوا في إصابته وتفتيته مع إحداث دوي تردد صداه في الجبال المحيطة، الأمر الذي أفزع الأفارقة وجعل بعضهم ينبطح على الأرض وبعضهم الآخر يفر هارباً كونهم لم يروا حتى تاريخه البنادق، وكانت أسلحتهم مقتصرة على السهام والنبال والرماح.
راح العُمانيون بعد ذلك ينتظرون ردة فعل سكان المنطقة تجاههم، فإذا بثلاثة أفارقة يأتون إليهم في موقهم بعد ثلاثة أيام قائلين: نحن سلاطين هذا البر، ونطمئنكم بأنكم في حمايتنا وليس عليكم بأس إلا من الأسود والفيلة ووحوش الغاب المفترسة.
وبهذا تنفس العُمانيون الصعداء واطمأنوا على حياتهم وراح تفكيرهم في كيفية العودة إلى المكان الذي انطلقوا منه (نيانغروه) استعداداً للعودة إلى عُمان مع حمولتهم الضخمة من العاج الثمين، وهداهم تفكيرهم إلى ضرورة إرسال ستة من خدمهم في مهمة التعرف إلى الدروب الآمنة والبحث عن عرب يمكنهم المساعدة، وعليه جلسوا يصنعون زوارق صغيرة (هوري) بما معهم من أدوات كالمناشير والفؤوس والمسامير من تلك التي لا تفارق عادة المغامرين في البحر. وباكتمال صناعة تلك الهوريات أمروا خدمهم الستة بركوبها والسير في الشط نحو الشرق والسؤال عن موقع نيانغوه ولم ينسوا تحميلهم رسائل مكتوبة على جلود الأغنام بمداد الأشجار موجهة إلى ستيقة خادم حبيب بن سالم العفيفي الذي كان هو الآخر يبحث عن سيده الغائب سنوات في أدغال الكونغو.
وكان ستيقة هذا، على الرغم من تداول الناس في عُمان وزنجبار فرض مقتل سيده العفيفي على يد وحوش الغاب فإنه لم يفقد الأمل بالعثور عليه حياً، ما جعله يرسل الرسل للبحث عنه، وتشاء الأقدار أن يلتقي رسل الخضوري ورسل ستيقة في شطوط الكونغو في مكان يسمى أروه، ويتفقوا على العودة إلى كروندو حيث ينتظر الخضوري ورفيقيه.
وجملة القول إن العُمانيين الثلاثة وخدمهم مع ستيقة ورسله تعاونوا على بناء مراكب وحملوا على ظهرها ما استطاعوا من العاج الثمين، وساروا بها إلى زنجبار ودار السلام حيث باعوا الحمولة بثمن مجزٍ، غير أن عبيد الله الخضوري لم يكتفِ بذلك؛ فصيته بين زنوج الكونغو وقبائلها وزعمائها المحليين جعلهم ينظرون إليه باحترام وتبجيل. ومن هنا ترك الخضوري، وقت رحيله عن كروندو صاحبه حمد بن أحمد الأنجزيجي (كوبنغا) حاكماً باسمه عليها، فقام الأخير برفع علم أحمر خاص على تلك الأجزاء الواسعة من الكونغو، وراح يأمر وينهى باسم الخضوري، بل يضم أراضي جديدة، وقد شجع هذا عُمانيين كثراً على التوافد تباعاً إلى الكونغو سواء من عُمان أو من زنجبار للتجارة أو الاستيطان من دون معوقات بفضل ولاء كوبنغا لسيده وصاحبه الخضوري. وبتزايد أعدادهم وتحكمهم في مناطق وموانئ معينة وقيامهم بجلب البضائع غير المعروفة لدى السكان المحليين وبناء البيوت والقصور ونشر مظاهر الحضارة، تمت مبايعة عبيد الله بن سالم الخضوري ملكاً للكونغو، ليستمر كذلك نحو 16 عاماً، انتهت باحتلال البلجيكيين للكونغو في عهد الملك ليوبولد الثاني، إثر فشل العرب العُمانيين وأنصارهم من الكونغوليين في المقاومة بسبب فارق العدة والعتاد.