كثيراً ما تتبادر إلى أذهاننا تساؤلات عن شكل مدن المستقبل، كيف ستكون هندسة طرقاتها، وما هيئة البنايات والمنازل التي ستحتويها، وماذا عن المؤسسات والشركات المختلفة، مثل المدارس، والمصانع، والمزارع، والمستشفيات، والمطارات، والفنادق، وغيرها من المفاصل الحيوية؟! إن التفكير في هذه الأمور لا يُعد ترفاً، خاصة بالنسبة للحكومات المتطلعة للمستقبل، وكذلك قدر تعلق الأمر بالمتخصصين في مجال استشراف الجاهزية المستقبلية، والعاملين في الوظائف والمهن ذات الطبيعة الاستراتيجية.

من هذا المنطلق يأتي هذا المقال، الذي يطرح سبعة مبادئ رئيسة لمدن المستقبل، حددها سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، ضمن القمة العالمية للحكومات في فبراير 2019، إذ خاطب سموه المشاركين فيها باستخدام تكنولوجيا «هولوغرام»، قائلاً: «على مر التاريخ كانت المدن المحرك الأساسي لتطور البشرية ونشر المعرفة وجذب أبرز المواهب والعقول، سواء كانت في روما أو غرناطة أو بغداد في عصر بيت الحكمة، الدول هي مجموعة من المدن ونجاح الدول يقاس بنجاح مدن، تتنافس على المستوى العالمي في اقتصاداتها وجذبها للمواهب وجودة الحياة فيها».

كما أكد سموه: «المستقبل ليس وجهة نصل إليها بل رحلة تُحسّن الحاضر الذي نعيش فيه باستمرار، وتعطينا الشغف لعمل المزيد والطاقة لتحقيق منجزات أكبر، الرحلة نحو المستقبل عمل مستمر لتحسين حياتنا اليومية».

المبادئ السبعة الرئيسة، والتحولات التي ستشهدها المدن حول العالم، والتي حددها وقام بتفصيلها سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، هي: (التحول الجذري في تصميم المدن، وطريقة التنقل، وطريقة العيش، وطريقة استغلال الموارد، ومفهوم تنافسية المدن، واقتصادات المدن، والحوكمة).

التحول الأول يتمثل بتصميم المدن، إذ إن أغلب مدن اليوم تم تصميمها بدايات القرن الـ20، وكان تصميمها يعتمد على ثلاثة محاور هي: عدد السيارات التي تستوعبها شوارع المدينة، والكثافة السكانية، والمناطق المخصصة للتصنيع والقطاعات ذات العائد الاقتصادي التقليدي للمدينة والدولة، وكل هذه المحاور سوف تتغير ملامحها في المستقبل.

التحول الثاني يتمثل في طريقة تنقلنا في المدن، إذ ستركز مدن المستقبل على ابتكار مسارات جديدة في الجو، وتحت الأرض، ونرى هذا في مشروعات مثل الهايبرلوب والتاكسي الطائر لهيئة الطرق والمواصلات في دبي.

التحول الثالث يتعلق بطريقة عيشنا في المدن نتيجة لتزايد دور الذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، والواقع المعزز في حياة الأفراد، فإذا كانت الكهرباء عصب المدن في القرن الـ20، والتي مكنت من ظهور الآلات وأتمتة الجهد البشري في الثورة الصناعية الثانية، فإن «الكهرباء الجديدة» لمدن القرن الـ21 هي الذكاء الاصطناعي.

التحول الرابع سيكون في طريقة استغلالنا للموارد في المدن، فإذا كانت التكنولوجيا تغير أسلوب حياتنا داخل المدن فهي ستغير طريقة استهلاكنا للموارد لتصبح أكثر كفاءة وصديقة للبيئة. ستتحول بيوت مدن المستقبل إلى محطات مصغرة لإنتاج الطاقة الكهربائية، وسيصبح كل إنسان مستهلكاً ومنتجاً للطاقة في الوقت نفسه، وسيستطيع أن يزود الشبكة الكهربائية بفائض إنتاجه منها.

التحول الخامس يتمثل في تغير مفهوم تنافسية المدن وكيف ستنافس على المستوى العالمي، مدن المستقبل العالمية ستكون بمثابة منصات مفتوحة لتواصل العقول وتطوير الأفكار والابتكار.

معظم الابتكارات التي شكلت تاريخ البشرية كان مركزها مدناً أو تكتلات سكانية مهمة، فمنطقتنا كانت تصدر العلم لجميع حضارات العالم في زمن بيت الحكمة بسبب العقول، التي كانت تجتمع فيها، وفي عصر الثورة الصناعية الرابعة وتحول الاقتصادات إلى اقتصادات معرفية، ستلعب جاذبية المدن للمواهب والكفاءات دوراً أكبر في تدفق رؤوس الأموال، التي ستخلق بدورها مجالات اقتصادية ووظائف جديدة.

التحول السادس هو تحول في اقتصادات المدن، إذ إن استقطاب الكفاءات والمواهب يخلق التقدم الهائل في التكنولوجيا، وفرصاً لازدهار قطاعات اقتصادية، ووظائف جديدة تمثل أساس ثروة مدن المستقبل.

التحول السابع والأخير، تحوّل في الحوكمة، وفي التشريع والعمل الحكومي، فلا يمكن تمكين نموذج حياة مستقبلي داخل المدن من دون حوكمة وقيادة مرنة. إن دور قيادة المدن يتغير من توفير حلول وخدمات للسكان إلى تمكين تصميم هذه الحلول، بالشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع.

ختاماً نقول: إن هذه المبادئ والتحولات المستقبلية ينبغي دمجها في المناهج التعليمية، والبرامج التدريبية، التي تستهدف موضوع استشراف المستقبل والتخطيط الاستراتيجي عموماً، وتلك التي ترتبط بتصميم المدن على وجه الخصوص.

دكتوراه في الإدارة العامة

خبير تطوير موارد بشرية