لا يمكن لأي قائد طموح يسعى لنهضة ورخاء وتقدم شعبه، تجاوز تجارب الأمم الآسيوية الناهضة بصفة عامة، وتجارب اليابان وكوريا الجنوبية والصين بصفة خاصة.

فإذا كانت التجربة اليابانية في النهوض كالمارد من تحت رماد هزيمتها المُرة في الحرب العالمية الثانية، قد عرفت على نطاق واسع، وكتب فيها الكثير بعد أن تفوقت اليابان على نفسها صناعياً وتجارياً وعلمياً وتكنولوجياً، وبنية تحتية، فإن تجربة كوريا الجنوبية لا تقل عنها أهمية.

فحتى ستينيات القرن العشرين، لم تكن هذه البلاد شيئاً يذكر، بسبب اعتماد اقتصادها على الزراعة، وانطوائها على نفسها، لكنها سرعان ما خلقت لنفسها تجربتها التنموية الرائدة، فتحولت خلال السنوات الأربعين الماضية، إلى رابع أكبر اقتصاد آسيوي، من بعد اليابان والصين والهند، بقيمة 1.6 تريليون دولار، بل نجحت في التحول إلى مركز إقليمي للمال والنقل والتكنولوجيا وصناعة المعرفة وإنتاج الأجيال الجديدة من الوسائط الإلكترونية وأجهزة الاتصالات والمركبات الكهربائية، من بعد أن نجحت في أواخر القرن الماضي في البروز كدولة رائدة في بناء السفن، وكثاني أكبر مصنع في العالم للأدوات الكهربائية المنزلية، وخامس أكبر منتج عالمي للسيارات والبتروكيماويات، وسادس أكبر منتج للصلب.

وبما أن دولة الإمارات العربية المتحدة، إحدى النماذج العربية الوضاءة في التنمية والخلق والابتكار، والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة في رفد خططها ومشاريعها بكل ما يحقق رفعتها ومكانتها في موازين القوى العالمية والإقليمية، فقد جاءت زيارة الدولة هذا الشهر، لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، لكل من كوريا الجنوبية وجمهورية الصين الشعبية، ضمن هذا الإطار، ولتجسد على أرض الواقع سياسة دولة الإمارات القائمة على مد جسور التواصل والشراكة في كل اتجاه، وعدم تقييدها في اتجاه شركاء المنطقة التاريخيين في أوروبا والولايات المتحدة.

ولو قصرنا هنا حديثنا على زيارة سموه الناجحة إلى كوريا الجنوبية، لوجدنا أنها لم تأتِ لبناء شراكة من العدم، وإنما جاءت لتعزيز وترسيخ ما هو قائم من شراكات بينية منذ سنوات، وتطعيمها بالمزيد من الدعائم وأدوات القوة، ومجالات التنوع والتوسع.

دعونا نقرب الصورة بلغة الحقائق والأرقام:

كانت كوريا الجنوبية من أوائل الدول الأجنبية التي اعترفت بدولة الإمارات العربية المتحدة بعيد قيامها سنة 1971. وفي عام 1980، دشن البلدان علاقاتهما الدبلوماسية البينية على مستوى السفراء. حدث ذلك في وقت كان الوجود الكوري في المنطقة قد بدأ من خلال قيام الإمارات وبعض الدول الشقيقة المجاورة بإرساء عقود إنشائية ضخمة على الشركات الهندسية الكورية العملاقة، لبناء الطرق والمطارات والموانئ وأحواض السفن والمجمعات الصناعية والسكنية.

في عام 2009، وبينما كانت العلاقات الإماراتية ــ الكورية تشهد تطوراً ملحوظاً في العديد من المجالات، قررت قيادة البلدين الصديقين رفعها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، لتتحول في عام 2018، إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الخاصة، شاملة مختلف أوجه التعاون، ولتصبح الإمارات أول بلد في الشرق الأوسط ترتبط بشراكة استراتيجية خاصة مع كوريا.

توطدت تلك الشراكة، وأضحت نموذجاً للعلاقات بين بلدين ينشدان التعاون من أجل السلام والرخاء والازدهار، لاسيما بعد الزيارات التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لكوريا الجنوبية في يونيو 2006، ومايو 2010، ومارس 2012، وفبراير 2014، وفبراير 2019، ناهيك عن زيارات قادة كوريا الجنوبية إلى الإمارات في مايو 2006، وفي ديسمبر 2009، ومارس 2011، وفبراير 2012، ونوفمبر 2012، ومايو 2014، ومارس 2015، ومارس 2018.

تفيد إحصاءات 2023، بأن الإمارات هي الشريك التجاري الثاني على المستوى الخليجي والعربي، والرابع عشر على المستوى العالمي لكوريا، بحجم يصل إلى 5.3 مليارات دولار، بينما تأتي كوريا في المرتبة العاشرة لتجارة الإمارات غير النفطية مع بلدان آسيا غير العربية، والشريك الثلاثين لتجارة الإمارات مع العالم، ويتمتع البلدان بعلاقات استثمارية وطيدة، نجد تجلياتها في قرار الإمارات في العام الماضي، بضخ استثمارات تقدر بـ 30 مليار دولار في كوريا الجنوبية، خلال السنوات القادمة، في حين بلغت قيمة الاستثمارات الكورية المباشرة في الإمارات حتى مطلع 2021، نحو 2.2 مليار دولار، معظمها في قطاعات المال والتأمين والتعدين وتجارة التجزئة والعقارات والنقل والطاقة والتكنولوجيا. وبهذا تحتل كوريا الجنوبية المرتبة الخامسة في قائمة دول آسيا غير العربية المستثمرة في الإمارات بنسبة 7 %، والمرتبة 17 في قائمة الدول الأجنبية المستثمرة مباشرة في الإمارات.