عشق الفنان القدير حسن محمود البارودي الفن منذ صغره وكان لتفوقه في اللغة العربية نطقاً وإلقاءً دور في بروزه لاحقاً كأحد أعمدة المسرح المصري القدامى. ففي سن الخامسة عشرة كان رئيساً لجمعية الخطابة والتمثيل بمدرسته، وبصفته تلك ولأسباب تتعلق بفصاحة لسانه ورخامة صوته وسلامة نطقه، اختاره ناظر المدرسة ليكون المتحدث أمام زعيم الأمة ورئيس حزب الوفد سعد باشا زغلول يوم زيارته للمدرسة سنة 1913.
وفي اليوم الموعود أبلى حسن البارودي بلاءً حسناً أمام الضيف الزائر، الذي أُعجب بأدائه وقال له: «اسمك حسن وأنت حسن وصوتك حسن»، مضيفاً: «أرجح لك حينما تكبر أن تدخل مهنة المحاماة لما تمتلك من قدرة على الإقناع والحجة القوية واللغة العربية السليمة، فحينها سيتعاطف معك المستشارون والقضاة». طبقاً لما أخبرنا به ابنه أشرف في حديثه لصحيفة «المصري اليوم». وهكذا ظل البارودي حائراً ويقول لنفسه: «سعد باشا يريدني محامياً، وأنا أحب التمثيل» إلى أن قرر اختيار التمثيل، مقنعاً نفسه بأنه لا فرق بين المحامي والممثل، فالأول يقول كلمة الحق في المحكمة والثاني يقولها على خشبة المسرح.
ومما يذكر في هذا السياق أن والده كان معارضاً لدخوله عالم التمثيل، لكنه غير رأيه بعدما أقنعه بمشاهدة عمله في إحدى المسرحيات، حيث وجده يؤدي دوره بإتقان ويحظى بالإعجاب والتصفيق، بل ويحصل على أجر مقداره 18 جنيهاً فيما كان أجر والده الشهري 8 جنيهات فقط.
ومما لا يعرفه الكثيرون عن هذا الفنان العملاق الذي ولد في نوفمبر 1898 وتوفي في عام 1974، أنه كان يجيد الإنجليزية والألمانية وهو ما أوصله إلى العالمية من خلال مشاركته في ثلاثة أعمال أجنبية أهمها فيلم «الخرطوم» مع شارلتون هيستون ولورنس أوليفيه سنة 1966، الذي أدى فيه دور شخصية محورية وتحدث خلالها بلغة إنجليزية سليمة أدهشت الأجانب لدرجة أنهم اعتقدوا بأن أحد والديه من أصول إنجليزية، بينما كان السبب هو تخرجه في مدرسة أمريكية راقية زمن الملكية، وعمله لبعض الوقت كمترجم في شركة «توماس كوك» السياحية.
قدم البارودي ما يقرب من 200 مسرحية وظهر في 100 فيلم سينمائي بدءاً من فيلمه الأول «ابن الشعب» للمخرج موريس ابتكمان في عام 1934 وانتهاءً بفيلمه الأخير «العصفور للمخرج يوسف شاهين في سنة 1973، ومروراً بأفلام خالدة لا تزال صداها وأفيهاتها تتردد إلى اليوم مثل: فيلم «الزوجة الثانية» (1967) لصلاح أبوسيف والذي أدى فيه دور شيخ البلد المنافق الذي يحلل الحرام ويحرم الحلال، وفيلم «باب الحديد» (1958) ليوسف شاهين الذي تقمص فيه دور الرجل الطيب «عم مدبولي» الذي يعتني ببطل الفيلم المختل عقلياً «قناوي». إلى ذلك قدم للإذاعة المصرية 540 حلقة من مسلسل «الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني».
وصفه عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي، الذي ضمه إلى فرقته وأوكل إليه مهام التمثيل والتلقين وترجمة النصوص المسرحية الأجنبية، بالفنان الذي كلما تقمص شخصية تسبب في ضجة مسرحية. وقالت عنه السيدة أم كلثوم: «إن تعبيرات صوت حسن البارودي تغني عن أي شيء آخر».
علاوة على صداقته بيوسف وهبي، ارتبط البارودي بعلاقات وطيدة مع ثلة من معاصريه مثل: زكي رستم وحسين رياض ومحمود المليجي وفاخر فاخر وأمينة رزق وعبدالوارث عسر، وأيضاً مع ثلة من نجوم المسرح القومي، بعد انتقاله إلى هذا المسرح للعمل مثل: محمد السبع ومحمد الدفراوي وملك الجمل وأحمد الجزيري وشفيق نور الدين ورجاء حسين.
وأخبرنا ابنه أشرف أن البارودي لم يعش في بيوت أو شقق، وإنما أمضى حياته مقيماً في عوامة على النيل بالقرب من نادي الجزيرة مكونة من دورين: علوي للنوم وسفلي لاستقبال الضيوف والأصدقاء والزملاء.
حينما تقدم في السن ضعف بصره وكان عليه السفر إلى الخارج للعلاج. ولأن وزارة الثقافة في مصر حينذاك اعتذرت عن تحمل نفقات علاجه متذرعة بعدم وجود ميزانية لذلك، تحملت كوكب الشرق تكاليف السفر والعلاج، بل أبقت كرسيه في صالونها الشهري خالياً إلى حين عودته.
قبل انتصاف السبعينيات زادت حالته الصحية سوءاً، خصوصاً وأنه كان قد دخل مرحلة حزن وإحباط قاسية منذ عام 1965 حينما تلقى رسالة بإحالته إلى المعاش دون الالتفات إلى احتجاجه على ذلك، فقال مقولته الشهيرة «الفنان عندنا بقى زي خيل الحكومة».