في تقييمه لقرار زيادة إنفاق بلاده في المجال الدفاعي، غداة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، استخدم المستشارالألماني أولاف شولتز تعبير«زايتنفندي»، قاصداً أنه «نقطة تحول» تاريخي في سياسة ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أن الرئيس الفرنسي ماكرون استحب هذا التعبير، بحيث آثر تكراره في مقالة مشتركة له مع شولتز (فاينناشيال تايمز 27/5/2014)، ذكرا فيها أنه بالنظر للتحديات التي طرأت خلال السنوات الخمس الأخيرة، بفعل وباء كورونا وحرب أوكرانيا والتحولات الجيوسياسية المتلاحقة، فإن أوروبا بمجملها، من حيث أسلوب حياتها ودورها في العالم، تشهد «زيتنفندي» بين نهاية حقبة وبداية أخرى.
إذا وسعنا دائرة النظر، وجدنا أن التعبير ذاته يصلح لمقاربة مستجدات تعامل «عالم الغرب» برمته، وبخاصة على صعيد الرأي العام، مع مجريات الصراع في فلسطين التاريخية.. نحن هنا إزاء لحظة «زايتنفندي» لافتة بشدة للانتباه، يمكن إدراجها ضمن تداعيات الحرب الإسرائيلية الدامية على غزة.
من المفهوم تماماً الآن أن الحراكات الشعبية العاطفة على الرواية أو السردية الفلسطينية في عالم الغرب، التي تتصدرها القطاعات الطلابية الجامعية، تمثل معلماً بارزاً للانقلاب على الرواية الصهيونية، التي استلبت الوعي الجمعي وسيطرت عليه واحتكرته لأكثر من مئة عام.
ليس قليل الدلالة على نقطة التحول في هذا السياق أن ترصد الاستطلاعات ذات الصلة، رفض نحو 70 % من شباب الغرب للدفوع التي يطرحها الإسرائيليون ويبررون بها حربهم الوحشية على غزة.
وربما كانت الدلالة أكثر حضوراً ووضوحاً إذا علمنا أن زهاء 40 % من طلاب 24 جامعة بريطانية عامة، يصنفون منازلة الفلسطينيين للإسرائيليين في غزة، بعد أحداث 7 أكتوبر، على أنها من أعمال المقاومة.
يحدث هذا في الدولة التي نعدها من أمهات القلاع الحاضنة تاريخياً وتقليدياً للصهيونية، الفكرة ثم الدولة، فكيف الحال بالنسبة لبقية المنظومة الغربية؟!. في كل حال، يوماً تلو الآخر يتضخم حجم القوى الشعبية الغربية، المستنكرة للسلوك الإسرائيلي تجاه الحقوق الفلسطينية.
هذا على المستوى الكمي، المتعلق أكثر بالمواقف الآنية العاجلة والسلوك اليومي أو الأسبوعي للفعاليات الجارية.. لكن مزيداً من التأمل يقودنا إلى تشوف ماهو أعمق من قمة جبل الجليد.. فهذا التحول الكمي، سريع الفوران والتجلي، لايصح تدبره بمعزل عن تأثيرات نوعية، تطال جذور المنظور الشعبي للصراع في فلسطين وجوارها.. ومن المعلوم نظرياً وعملياً، أن مثل هذه التأثيرات تتفاعل بوتيرة بطيئة، لكنها قد تبلغ طور الإطاحة بثوابت وإحلالها بثوابت أخرى طويلة الأجل والمفعول.
لنا أن نلاحظ، مثلاً، كيف أن المتصدرين لمشهد الشوارع والجامعات الرافضة للاستقواء الإسرائيلي ضد غزة، الرافعة لشعارات الحياة والحرية لفلسطين، هم من العناصر الفتية، المؤهلة مستقبلاً لشغل مقاعد الحكم والسياسة وصناعة القرار.
هؤلاء عموماً، بما في ذلك شرائح يهودية مستنيرة، هم القوى التي ستتمرد، ولو بحيثية آجلة، على القناعات التي بثتها النخب الصهيونية والمتصهينة حول أصل وفصل الصراع في فلسطين. والعبرة بهذا الخصوص أن المواقف العابرة الانفعالية الهادرة ستفضي إلى اتجاهات أو توجهات أكثر استقراراً ورسوخاً.
من شأن هذا التحول الكيفي، تنامي الاهتمام الشعبي الغربي بقضايا السياسة الخارجية، ولاسيما ما تعلق منها بالشرق الأوسط بعامة، وذلك معطوفاً على تحرر الفئات الشابة ونخبها الواعدة من مواريث الآباء والأجداد المشبعة بالرؤى والتهويمات الصهيونية الكلاسيكية.. والسخرية من التهمة المعلبة، التي تجعل من كل ناقد لأفاعيل إسرائيل المخزية معادياً للسامية.
هذا في تقديرنا بعض ما سيمكث في فضاءات العقل والضمير الغربيين. وفي أجل قريب أو آخر، لن يصدق الكثيرون هناك الحديث الممجوج عن إسرائيل، الدولة الديمقراطية رمز الحضارة والتقدم، المحاطة بشعوب بدائية تهددها بالإبادة.. كيف لا يحدث هذا التحول وقد ظهرت إرهاصات إضفاء صفات الإبادة الجماعية على هذه الدولة برمتها، ورمي صفوة قادتها بالإجرام ضد الإنسانية وطلب المثول أمام العدالة، من قبل أعلى الهيئات القضائية الأممية ؟!
ترى، هل يجدر بالزعيمين شولتز وماكرون، وسواهما من قادة الرأي والساسة الغربيين، أخذ هذه القناعات بعين الاعتبار، وهم يتحدثون عن الـ «زايتنفندي» من حولهم ؟!