في 9 نوفمبر 2021، توفي الموسيقار غازي علي، أحد أعمدة الطرب السعوديين الكبار، بعد نصف قرن من الإبداع، قدم فيها أشجى الألحان بصوته وبصوت غيره، وساهم خلالها بتخريج العديد من فناني السعودية، ممن تدربوا على يده أصول الغناء والعزف.

عرفه الناس في الخليج في ستينيات القرن العشرين، حينما قدم أغنيته الخالدة عن البحرين، والتي تقول كلماتها: «على البحرين.. سافر للزين.. وقل للزين.. دموع العين.. على الخدين.. تصير بحرين». ورغم بساطة كلمات الأغنية، إلا أنها بزت كل ما غناه المطربون السعوديون قبله وبعده من أغانٍ عاطفية للبحرين.

ولهذه الأغنية قصة عاطفية حقيقية، رواها صاحبها في حديث صحافي، فقال: «كنت في زيارة للشاعر طاهر زمخشري بمنزله في القاهرة، فشاهدتُ فتاة جميلة جداً، وسألتُ عنها، فقال لي إنها من البحرين، وتقوم بنشاط أدبي. فسألت عنها في اليوم التالي، فقيل لي إنها سافرتْ. فخرجتُ وركبتُ الحافلة، وبدأتُ في كتابة وتلحين المقطع الأول».

ويبدو أن مثل هذه المواقف العاطفية تكررتْ مع فناننا أكثر من مرة. ففي المقابلة الصحافية ذاتها، تطرق إلى قصة أغنية أخرى بعنوان «سلام لله»، قدمها في 1962، فقال إنه أثناء دراسته الموسيقي بمصر، سكن لبعض الوقت في شارع ابن الأزد بالجيزة، وكان كلما فتح الشباك اصطدمت عيناه بآنسة مصرية رائعة الجمال، فغازلها، واعتقد أن شقاوة المراهقة قد تحولتْ إلى حب حقيقي.

وأضاف: «حصل أنْ انتقلنا للسكن بشارع شاهين في العجوزة، وبعد استقرارنا لعامين تقريباً، وأنا أفتح الشباك، إلا وهذه المخلوقة نفسها التي لم يبرح خيالها ذهني، هي التي تطل من الشباك المقابل، مع تغيير كبير، كونها كانت حاملة رضيعها، أي أنها تزوجتْ، الأمر الذي جعلني أضرب أخماساً في أسداس، ولكني اعتبرتُ أنه من الممكن أنْ يكون الرضيع شقيقها مثلاً أو ابن أخيها أو أختها، لأجد لي مبرراً للمواصلة.

في اليوم التالي صباحاً، وأنا نازل من البيت متجهاً إلى المعهد، إلا وأقابلها تدفع طفلها «بعربية الأطفال»، وبشقاوتنا نحن الشبان ومراهقي المدينة المنورة، قلت لها سلام لله ياهوه، فأعجبتني الكلمة التي رميتها تلقائياً، وأخذتُ أعمل عليها نصاً غنائياً، يصور الحالة التي أعيشها، وظللتُ أكتبْ وأكمل الصورة، فخرج معي النص التالي، الذي لحنته في يومين:

ســـلام لله يا هاجرنا في بحر الشوق وما له قـــــرار

خسارة البيت جوار بيتنا ولا ترعى حقوق الجــــار

 

عاش «غازي علي» حياة هادئة، دون ضجيج وخصومات وادعاءات وبهرجة إعلامية، ورحل عن دنيانا أيضاً بهدوء، على الرغم من أنه أحد أوائل الفنانين السعوديين الذين درسوا الموسيقى على أصولها في معهد الكونسرفتوار في القاهرة.

ولد ونشأ «غازي علي محمد علي باجراد» عام 1937 بالمدينة المنورة، حيث تكونت ملكته الشعرية والموسيقية. فقد والده في صغره، فتولتْ أمه المثقفة بالسليقة «عزيزة الدسوقي»، تربيته. وعلى يدها تعلم القراءة، من خلال كتاب «السندباد البحري»، لمؤلف كتب الأطفال الأشهر كامل الكيلاني. وهكذا تولع بالقراءة منذ الصف الرابع الابتدائي، وراح يقرأ الروايات المترجمة لعمالقة الأدب الأجنبي، وروايات كبار أدباء مصر، وكذلك القصائد المغناة، وكانت أولاها قصيدة «جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت» لإيليا أبو ماضي، التي لحنها وغناها الموسيقار محمد عبد الوهاب.

أما عن قصته مع الغناء، فقد قال في حوار صحافي آخر، إنه سمع الموسيقى لأول مرة من خلال المذياع، وهو طفل صغير في سن الخامسة. وأضاف أن ما سمعه كان عبارة عن لحن تبثه محطة إذاعية تركية، من أداء مجموعة من الشباب والشابات. هذا اللحن، الذي لم يكن سوى موشح تركي، هزه، وسبب له قشعريرة، وجعله يبكي ويستحي ويختفي وراء الدرج، طبقاً لما رواه. وهكذا لم يبلغ سن السادسة أو السابعة، إلا وهو يحفظ الأغاني ويرددها، مقتفياً بذلك أثر خالته ووالدته، اللتين كانتا من صاحبات الصوت الجميل، فضلاً عن جده لأمه، الشيخ «أحمد الدسوقي»، الذي كان موسيقياً، ويعزف على العود.