الحرب في غزة، رغم طول أمدها، لكنها تكتسب أهميتها وخطورتها من تداعياتها وارتداداتها على محيطها القريب والبعيد، فلو تأملنا ملف الأشهر الثمانية لهذه الحرب، وتصفحنا تفاصيل أوراقها بدقة، لا بد أن نتوقف أمام عدة ملاحظات وشواهد واضحة.
أولى هذه الأوراق أن الحرب على غزة برغم صعوبة وتعقيدات الأوضاع الإنسانية للأشقاء الفلسطينيين فإنها بدون شك أعادت هيبة وحضور وزخم القضية من جديد، وبات مقعد الدولة الفلسطينية حاضراً بقوة على المسرح الدولي، فيبدو أن دورة التاريخ والحضارة آن لها أن تفصح عن الحقوق العادلة والشرعية للشعب الفلسطيني بعد ثمانية عقود عجاف، تتخللها حروب ومخططات للتقسيم والتصفية والتهجير.
دارت الدورة وليس مصادفة أن تنتفض شعوب العالم من أجل الشعب الفلسطيني، ويصبح الصوت الفلسطيني هو الأعلى في شوارع ومدن العالم، ومن ثم فإن هذه الحرب على كلفتها الباهظة كشفت أنه لا بديل من حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967.
أما الورقة الثانية فتأخذنا إلى قراءة فيما حدث في الداخل الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر. لم يتوقع الإسرائيليون أنفسهم هذا الهجوم المباغت الذي كشف عن ضعف وهشاشة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، بما أحدث لهم صدمة، تسببت في تشققات كبرى في الجسد الإسرائيلي، يصعب علاجها في المنظور القريب، لا سيما أن هذه الحرب خلقت استقطابات حادة بين التيارات الإسرائيلية المتناحرة، فعلى سبيل المثال نجد أن كتلة الليكود اليمينية في الأصل ازدادت تطرفاً ويمينية، وإعطاء مقودها إلى أقصى التطرف اليميني، الذي يتلاعب بقائد كتلة الليكود نفسها، وهو بنيامين نتنياهو، وفي المقابل أن حزب «معسكر الدولة» الذي يقوده بيني غانتس، الوزير في مجلس الحرب، ويائير لابيد، زعيم المعارضة في الكنيست، يتقاطع مع الأحزاب الدينية المتطرفة من وجهة نظر الهجوم على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى أن هذين الحزبين يرغبان في إزاحة نتنياهو وحكومته، ويخططان إلى تشكيل حكومة جديدة، ويعتقدان أنها ستكون حكومة إنقاذ لإسرائيل، لا سيما أن الداخل الإسرائيلي الآن بات يعيش حالة من المتغيرات غير المسبوقة على مختلف الصعد.
ليس خافياً أن مؤسسات التصنيف المالية الدولية تؤكد تراجع الاقتصاد الإسرائيلي، كما أنه على الصعيد الأمني فقد تراجع الشعور بالأمان في جميع أراضي إسرائيل، لا سيما أنه للمرة الأولى منذ قيام إسرائيل عام 1948 تُفرض عليها منطقتان عازلتان، الأولى في غلاف غزة جنوب إسرائيل، والمنطقة الثانية هي منطقة الجليل الأعلى في شمال إسرائيل على الحدود مع جنوب لبنان، وأن 150 ألف إسرائيلي يعيشون في الفنادق ولا يستطيعون العودة إلى منازلهم في هاتين المنطقتين، هذا فضلاً عن اهتزاز صورة إسرائيل في العالم، فباتت تلاحق دولياً من قبل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، وأخيراً يأتي تصنيف الجيش الإسرائيلي بالقائمة السوداء «العار» في قتل الأطفال من جانب الأمم المتحدة، تلك القائمة التي تضم «داعش» و«بوكوحرام»، و«القاعدة»، أي أن تصنيف الأمم المتحدة وضع الجيش الإسرائيلي ضمن التنظيمات الأكثر إرهابية في العالم، أما السطور المؤلمة في الورقة الإسرائيلية فتلك التي لم تتوقعها، وهى الاعترافات الدبلوماسية الدولية المتتالية من قبل إسبانيا والنرويج، وأيرلندا، وهو الأمر الذي جعل إسرائيل تشعر بضربة دبلوماسية كبرى، على عكس ما كانت تتوقع من حلفائها الأوروبيين، في السياق ذاته كانت 143 دولة عضواً بالجمعية العامة للأم المتحدة صوتت لصالح الاعتراف بالعضوية الكاملة لدولة فلسطينية داخل الأمم المتحدة، كل هذه المواقف الإيجابية بمثابة خسائر استراتيجية لإسرائيل.
هذه الشواهد تكتمل بقراءة الورقة الإقليمية، امتدت ألسنة اللهب إلى لبنان، وباتت تنذر بأخطار كبرى إذا ما اتسعت رقعة الحرب بين لبنان كدولة، وبين إسرائيل، وهنا لا شك في أن الأوراق جميعها ستختلط، وهذا ما حذر منه الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو نفس السيناريو الذي تخشاه فرنسا، الحليفة الأوروبية الأولى للبنان، فضلاً عن أن تداعيات هذه الحرب أربكت حسابات واشنطن، فقد صارت القوات الأمريكية الموجودة في إقليم الشرق الأوسط تتعرض لهجمات متتالية من فصائل تقاتل دعماً لغزة، بل امتدت الآثار إلى الطرق والممرات البحرية والملاحية في البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب، ومما شكل ضربة قوية لسلاسل الإمداد العالمية، والتجارة البحرية.
إذن كل هذه الأوراق المكتوبة بحبر من الدماء تؤكد أن الطريق الوحيد لاستقرار كل أطراف هذه الحرب على مختلف الصعد يبدأ وينتهي عند قيام دولة فلسطينية مستقلة، ومتصلة على حدود الرابع من يونيو، وعاصمتها القدس الشرقية.