من يقرأ سيرة الدكتور حمود البدر، سيجدها مكتنزة بصور المعاناة والكفاح والاجتهاد والدأب من أجل تغيير واقعه المعيشي الصعب كما سيجد أمامه شخصية متقدة الفكر، واثقة الخطى، كريمة الخصال، ودودة الروح، نبيلة الهدف، لم توهنها سهام الحساد والمغرضين ولم تضعفها وجاهة المناصب فقد ظل يحمل على أكتافه مسؤوليات خدمة بلده وناسه ومجتمعه على مدى عقود متواصلة طويلة، متنقلاً من مدينة إلى أخرى طلباً للعلم، ومن عمل إلى آخر طلباً للرزق، ومن موقع رسمي إلى آخر، خدمة للوطن.
وهكذا فإن الكتابة عن شخص بثقله وحجم نجاحاته في معاركه ليست عملية سهلة لأن الحديث عنه ذو شجون ويتطلب الدقة، وخصوصاً أنه حرص طوال حياته على أن يبتعد عن الأضواء ويقاوم الحديث عن نفسه لولا أن الصحافة ظلت تطارده لما في حياته من تجارب ملهمة للأجيال الجديدة.
ولد «حمود بن عبدالعزيز بن عبدالمحسن العبدالله البدر» (وهو من أسرة العباد لكن والده انفصل عنها اسماً بسبب كثرتهم واختار لنفسه وذريته لقب «البدر» وثبته في وثائقه الشخصية التي اعتاد أن يسافر بها إلى الكويت والشام والهند)، في شرقي بلدة العقدة بمدينة الزلفي النجدية سنة 1939، أي في زمن كان فيه الفقر سائداً والأمراض منتشرة والوسائل محدودة والمعيشة مضنية والمبهجات نادرة، وغير متاحة التسلية والترفيه بما في ذلك الاستماع إلى الراديو واستخدام كاميرات التصوير.
وهكذا فإنه قاوم في صغره الجدري والطاعون والرمد والحصبة، وسكن بيوت الطين البسيطة، ولم يعرف اللحم إلا في أعياد الأضحى، ولم يكن عنده إلا ثوب واحد فقط طوال السنة (لم يكن مخبوناً من جهة الكُم أو الذيل بحيث إذا قصر الثوب أو أكمامه أمكن فك الخبن، حيث كان الخبن نوعاً من الرفاهية آنذاك).
وكانت وجباته الثلاث من صنف واحد (تمر أو قمح)، بل كان يتعارك على ما تيسر من وجبة طعام مساء كل يوم قبل غروب الشمس والتي ربط الصغير حمود توقيت أفولها بتوقيت الوجبة. أما نشاطه آنذاك فكان مقتصراً على التردد على بلدة «الحيطان» ذات الأشجار الباسقة المثمرة والمختلفة عن بلدة «العقدة» ذات الأسوار الطينية، وذلك لاصطياد الطيور الصغيرة بالنباطة من أجل شويها وأكلها أو تسلق الأشجار من أجل قطف فاكهتها وبلحها.
والده عبدالعزيز بن عبدالمحسن سافر إلى الكويت على ظهور الجمال للحاق بمن سبقه من أبناء عمومته الذين كانوا يعملون هناك. وسرعان ما لحقه أخوه حمد ليعمل الاثنان على ظهور المراكب الشراعية المتنقلة ما بين البصرة وعبدان والكويت لجلب الماء إلى الأخيرة، ثم ركبا المراكب الكبيرة المسافرة إلى المرافئ البعيدة ولهذا كانت أخباره تنقطع عن أسرته في الزلفي لفترات طويلة، لكنه لم ينقطع عن إرسال الغذاء والكساء والمال اليسير إليها كلما كان قادراً على ذلك.
درس حمود البدر أولاً في الكتاتيب الملحقة بالمساجد لمدة سنة واحدة، وتحمل ظروفها الصعبة وأحوال التعامل ومخالطة طلبتها الأكبر سناً منه، من أجل أن ينافس الآخرين في القراءة وتلاوة القرآن. وما إن تمكن من القراءة حتى صار يتردد يومياً على دكان فتحه «أحمد النصار» في مجلسه لبيع الحبال والكبريت والملح والتمر والقهوة والأقمشة وغيرها من البضائع التي كان يجلبها من الكويت والأحساء والرياض.
في هذا الدكان كان يتجمع ويجلس من ليس عنده عمل أو القادم للعمل والزيارة من خارج البلدة، لكن ذهاب الطفل البدر إلى هناك يومياً كان من أجل قطع ورقة التقويم، التي لم يكن منها في البلدة سوى اثنين، وقراءة ما خلفها من حكم ومعلومات، فإن عجز عن الاستيعاب ألح بالسؤال حتى يدرك مراده. وذات مرة كان النصار منهمكاً في عمله وعنده ضيوف، فضايقه قدوم الصغير حمود ليسأله، فصرخ فيه قائلاً: «تراك أشرقتنا»، بمعنى «نشبت في حلوقنا».
استقرت العبارة في عقله، ثم نفض عنها الغبار بعد سنوات وعدلها إلى «إشراقة» واتخذها عنواناً لزاويته الصحفية، بل راح يكتب أيضاً باسم مستعار هو «مـُشرّق». بعد أن أجاد القراءة من خلال الكتاب، وأجاد الكتابة بجهوده الذاتية، التحق بأول مدرسة ابتدائية حكومية تفتتح بالزلفي عام 1368 للهجرة، وكان ضمن أول دفعة تلتحق بها وتتخرج منها.
ويتذكر البدر أنه كان في مدرسته مصنفاً على رأس قائمة الطلاب الفقراء التي كان يعدها وكيل المدرسة ليرفعها إلى أحد المحسنين. وفي عام 1372 للهجرة التحق مع بعض أقرانه من الأوائل بالمعهد العلمي بالرياض (نواة جامعة الإمام محمد بن سعود)، وكان دافعهم ليس طلب العلم والمعرفة فحسب وإنما أيضاً مكافأة المعهد الشهرية البالغة 260 ريالاً والتي ساعدتهم على ظروف المعيشة الصعبة.
بعد أن تخرج في المعهد العلمي التحق بجامعة الملك سعود بالرياض وأمضى سنته الأولى بنجاح في كلية اللغة العربية، لكنه تركها لغرامه بدراسة الصحافة، حيث كان قد زار مصر مع بعض زملائه في المعهد العلمي، وعلم أن بها فرعاً لدراسة الصحافة فتعلق قلبه بهذا التخصص.
سأل البدر كيف يحقق رغبته في دراسة الصحافة، فنصحوه بنيل شهادة الثانوية من المعهد السعودي في مكة أولاً. وبالفعل سافر إلى هناك وانضم للمعهد متأخراً، لكنه نجح في الحصول على المركز الثالث بين الخريجين.
ولأنه كان من الأوائل فقد حصل على بعثة دراسية إلى مصر، وسافر إليها عبر سوريا برفقة صديقه محمد بن عبداللطيف الملحم (وزير الدولة السعودي الأسبق) الذي شاركه المسكن في القاهرة. وبهذا حقق حلمه بدخول قسم الصحافة بكلية الآداب في جامعة القاهرة.
أخبرنا البدر في هذا السياق أن سنته الدراسية الأولى هناك ضاعت هباء «لأن الذين ابتعثوني سجلوني خطأ في قسم اللغة العربية باسم (حمودة) بينما سجلت أنا عند وصولي للقاهرة في قسم الصحافة باسم (حمود) فقبلت في القسمين، وتوزعت نتائج امتحاناتي بينهما، وأصبحت أنا الضحية ورسبت في القسمين، فاضطررت لإعادة السنة من جديد في قسم الصحافة وتخرجت منها بعد أربع سنوات».
وخلال تواجده في مصر تأثر بأجوائها السياسية، وتحمس لمشروع عبدالناصر القومي والوحدوي إلى أن وقع انهيار الوحدة المصرية السورية كما أنه قام بعمل تحقيقات ميدانية كجزء من متطلبات دراسته الجامعية.
وحول هذا قال في حوار نادر مع صحيفة عكاظ (20/8/2009): «عندما دخلت قسم الصحافة بجامعة القاهرة وجدت أن لديهم جزءاً عملياً لكل مقرر من المقررات، وينفذ من خلال إلحاق الطالب بصحيفة من صحف القاهرة، وفهمت من زملائي السابقين أن هذه الصحف تتعامل مع الطلاب كأنهم عمال تنظيف ويشغلونهم في تقطيع الورق وخلافه، فاتخذت خطوة من جانبي بالذهاب إلى رئيس القسم عبداللطيف حمزة وأستاذ الإخراج الصحافي الدكتور أحمد الصاوي وطلبت منهما أن تكون كل تطبيقاتي عن السعودية، فرحبا بالفكرة.
وبدأت بتاريخ الطباعة وجمعت بحثي من خلال رحلة قمت بها من مكة إلى جدة والرياض والظهران، ومعي كاميرتي واستخدمت جميع أنواع التنقل من الطائرة الداكوتا إلى الحمار».
وأضاف إنه دفع تكاليف تلك الرحلات من جيبه الخاص لكن في بحثه الميداني الثالث تكفل صاحب جريدة البلاد «حسن عبدالحي قزاز» بتذاكر رحلاته عام 1961 والتي استغرقت 53 يوماً تنقل خلالها في مختلف المناطق السعودية بما فيها جزيرة فرسان التي كان هو أول صحفي يزورها ويكتب عنها.
الغريب هو أن الرجل لم يتوجه بعد تخرجه إلى الصحافة والإعلام، وإنما التحق للعمل بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، على الرغم من أنه كان من أوائل السعوديين المتخصصين في الصحافة. ويقول البدر إنه قام بمساومة الوزارات على شهادته الجامعية، وإنه حينما عرض عليه وزير العمل والشؤون الاجتماعية آنذاك الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل وظيفة شاغرة بمسمى مدير عام العلاقات الدولية والمؤتمرات بالوزارة وافق من دون تردد، أما تخصصه الجامعي فقد مارسه من خلال العمل في الفترة المسائية بجريدة اليمامة قبيل إلغاء نظام صحافة الأفراد وصدور نظام صحافة المؤسسات.
إحدى آيات انفتاح البدر ومقاومته للأفكار التي قيدت ناسه ومجتمعه طويلاً، أنه اشترى الراديو من الرياض وأتى به إلى الزلفي في زمن كان اقتناؤه والاستماع إليه حراماً، واشترى أيضاً آلة تصوير وصور بها، وافتتح أول مكتبة أهلية في بلدته مع صديقه عبدالله العثمان ليطلع الناس على الصحف المحلية، التي استحوذ على وكالة توزيعها، وكي يقرأوا ما بها من معارف وأخبار، علّ نظرتهم الضيقة تتبدل.
غير أن عمله الذي يبرهن أكثر على نبذه للتقاليد القديمة، وتحديداً منها ذات الطابع غير البناء هو تقدمه لخطبة فتاة من الحجاز هي «ثريا شيخ» كريمة الشيخ عابد محمد صالح شيخ (نائب محافظ مؤسسة النقد السعودي الأسبق ووزير التجارة في عهد الملك سعود) التي رآها في القاهرة زمن دراسته هناك.
فكانت الخطوة زيجة بين طرفين من بيئتين مختلفتين تماماً، لكن الله جمع بين قلبيهما بالمودة ثم ربط بينهما بالتعاون على البر والتقوى طبقاً لقول د. عبدالرحمن الشبيلي في كتاب «البدر والثريا والبر ثالثهما» من تأليف بدر البدر ومحمد القشعمي.
وظيفته بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية منحته فرصة الابتعاث مرة أخرى للتحصيل العالي، فسافر مصطحباً زوجته إلى الولايات المتحدة، وهناك تم قبوله في قسم الإعلام بجامعة كارولينا الشمالية كطالب ماجستير، لكن سرعان ما شعر هو وقرينته بالوحدة ولوعة الاغتراب، وخصوصاً مع عدم وجود عائلات سعودية دارسة في ولاية كارولينا آنذاك.
ولهذا غادرها إلى جامعة ولاية ميتشغيان التي كان بها قسم للصحافة. وهناك تعرض للظلم والرسوب بسبب انتقاده احتلال فلسطين، ما دعاه إلى تغيير تخصصه من الصحافة إلى إدارة الجامعات. وهكذا تخرج عام 1969 حاملاً الماجستير في إدارة الجامعات، واتبعها بنيل درجة الدكتوراه في العلاقات العامة عام 1972 من جامعة ميتشيغان الحكومية.
عاد البدر إلى وطنه بعد خمس سنوات، ومعه زوجته الصبورة التي انتهزت فرصة وجودها في الولايات المتحدة فتعلمت الإنجليزية وأنهت دراستها الجامعية، ومعهما ثلاثة من الأبناء، فعاد إلى وظيفته بوزارة العمل لفترة قصيرة قبل أن ينتقل منها إلى جامعة الملك سعود التي تقلب في مراتبها الأكاديمية حتى صار أستاذاً ووكيلاً للجامعة في عام 1975.
وخلال وظائفه الأكاديمية شارك في عضوية العديد من اللجان والمجالس العلمية والجامعية والاجتماعية، وساهم مع صديقه وزميله الدكتور محمد الرشيد (وزير التعليم الأسبق) في تطبيق نظام الساعات في الجامعة الذي اعتبر إنجازاً كبيراً كونه لم يكن مطبقاً آنذاك إلا في الجامعتين الأمريكيتين في بيروت والقاهرة.
وبصفته وكيلاً لجامعة الملك سعود عمل على تطوير أقسامها وإضافة كليات جديدة وقبول الطالبات مع إنشاء أقسام لهن، وعاصر تحول الجامعة من مبانٍ وكليات مبعثرة إلى مدينة جامعية عصرية.
في عام 1993 اختير البدر ليكون أول أمين عام لمجلس الشورى السعودي، وبقي في منصبه هذا حتى عام 2005، وبعدها ظل في المجلس كعضو حتى عام 2009. لكنه بقي طيلة هذه السنوات مواظباً على الكتابة بنفس الروح النقدية والتوعوية المستنيرة التي لازمته دوماً، وما لم يقله في نقاشات مجلس الشورى كان يصدح به في صفحات الجرائد.
ونجد تجليات ذلك في مطالبته بدورات عسكرية للشباب كي يتعلموا الانضباط والمسؤولية ومبدأ الثواب والعقاب، وانتقاده فكرة إدارة الرجال لتعليم البنات قبل أن يُصار إلى تعيين النساء لإدارة تعليم البنات بزمن طويل، ووقوفه بشدة مع مقترح تطبيق نظام الساعات في المدارس الثانوية لفوائد الجمة في العملية التعليمية، ومطالبته قبل سنوات طويلة بالسماح للمرأة بالقيادة مع وضع الضوابط الإجرائية والعقوبات الرادعة لأية ارتكابات ومخالفات سلوكية.