غني عن البيان أنه منذ تأسيس ما يسمى «جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية» في الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية على يد الزعيم الشيوعي «كيم إيل سونغ» بُعيد انتهاء الحرب الكورية (1950 ــ 1953)، وهذه الدولة، بنظامها الستاليني الحديدي المدار من قبل سلالة كيم، تشاغب جاراتها وتهددها بالمناورات الحربية وإطلاق الصواريخ الباليستية وأقمار التجسس وإجراء التجارب النووية، خصوصاً جارتها الأقرب (كوريا الجنوبية).

والمعروف أن الكوريتين لا تزالان في حالة حرب، وتفصلهما حدود شديدة التحصين، بما في ذلك المنطقة المنزوعة السلاح، ولم تنجح أي من المبادرات الكورية الجنوبية والمساعي الإقليمية والدولية طيلة العقود الماضية في تخفيف حدة التوتر بين الكوريتين، باستثناء اتفاقية «بانمونغوم» لعام 2018 التي نصت على التعاون الاقتصادي ونزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية وإيقاف الحرب الإعلامية وصياغة نظام للسلام، علماً بأنها تعرضت لهزات عدة ولم ينفذ منها شيء يعتد به.

وغني عن البيان أيضاً أن كوريا الشمالية تمثل اليوم أوضح نموذج للأنظمة الاستبدادية الشعاراتية التي ترفض السلام والاستقرار، ولا تريد أن ترتقي بنفسها وسكانها، ولا تريد للآخرين أن يعيشوا في أمن وسلام.

لذا فهي معزولة عن العالم المتحضر بعقوبات أممية صارمة، ولا تربطها علاقات تعاون وشراكة إلا مع الصين وروسيا وحفنة من الدول الدائرة في فلك الأخيرتين، وتخاف من القطب الأمريكي وحلفائه، فتعتمد في بقائها على الشعارات الرنانة وتجهيل شعبها بما يدور في العالم وتزييف الحقائق والقمع الداخلي وإطلاق التهديدات وبناء ترسانات الأسلحة المحظورة.

وفي الأسابيع الأخيرة لجأت إلى عمل غير مسبوق ضد جارتها الجنوبية تمثل في إطلاق نحو 3500 بالون عبر الحدود نحو كوريا الجنوبية محملة بخمسة عشر طناً من القاذورات والأسمدة والمخلفات وأعقاب السجائر وأوراق المراحيض المستعملة والفضلات البشرية والحيوانية، وذلك في عمل غير حضاري، والأغرب في تعامل الدول مع بعضها البعض.

ورافق هذا العمل المشين تصريحات مستفزة من قبل مسؤولين كبار في الشطر الشمالي.

فمثلاً وصفت «كيم يو جونغ، وهي الشقيقة الصغرى لديكتاتور كوريا الشمالية «كيم جونغ أون» والمسؤولة الكبيرة في نظامه، البالونات المرسلة إلى كوريا الجنوبية بأنها «هدايا صادقة للجيران»، وأن إرسالها يقع ضمن «حرية التعبير» التي ينادون بها. أما وزير الدفاع «كيم كانغ إيل» فقد تفاخر بإرسال بالونات القمامة قائلاً: «لقد أمطرناهم بالقاذورات ولنرَ حجم الجهد المبذول من قبلهم لإزالتها».

في تبريرها لإطلاق بالونات القمامة، قالت حكومة بيونغيانغ إنه رد على استفزازات كورية جنوبية بإرسال بالونات مماثلة عبر الحدود تحمل أشياء مخالفة لأنظمة وقوانين البلاد.

والحقيقة، التي حاولت أجهزة الدعاية الكورية الشمالية إخفاءها هي أن من يتولى إرسال تلك البالونات ليست حكومة سيئول أو أجهزتها الرسمية وإنما مواطنون كوريون شماليون ممن تمكنوا من اللجوء بشق الأنفس إلى الجنوب ويعيشون فيه أحراراً، ويحاولون انطلاقاً منها مساعدة أقاربهم الفقراء القابعين تحت نظام آل كيم القمعي بإرسال الأموال والهدايا.

وأحياناً يكون مصدر تلك البالونات أفراداً أو منظمات أهلية كورية جنوبية، بهدف تبصير سكان الشطر الشمالي بما يجري في الخارج من خلال حشو البالونات بالقليل من الدولارات وكمية من الأرز، أو بفلاشات تحتوي على صور ومقطوعات موسيقية وأخبار سياسية ومنتجات ثقافية، وذلك من باب دعم إخوتهم في الشمال وتزويدهم بالأخبار الصحيحة وآخر التطورات العالمية وتفنيد مزاعم الإعلام الرسمي لحكومة بيونغيانغ.

وبعبارة أخرى فطن النشطاء الكوريون الشماليون وأعضاء المنظمات المدنية في الجنوب إلى أن تلك الوسيلة (البالونات) تأتي أكلها لجهة تنوير الشعب المغلوب على أمره في الشمال بدليل أن الكوريين الشماليين يستقبلون بالوناتهم بحماس مع حذر شديد خوفاً من حكومتهم المستبدة.

ومما لا شك فيه أن تلك العملية أرهبت نظام بيونغيانغ وأقلقت مضجعه وأخافته، هو الذي ما برح يحظر على شعبه الانفتاح على الآخر ويقيد حريته لجهة التواصل مع العالم الخارجي ويمنعه من الفرح والبهجة كونهما من مخاطر الرأسمالية الغربية ويحرمه من أبسط حقوقه الآدمية.

لكن كيف ردت حكومة سيئول على بالونات القمامة الشمالية. بطبيعة الحال أصدر الجيش بيانات متتالية للسكان حذر فيها من الاقتراب من تلك البالونات أو فتحها خشية أن تكون محملة بمتفجرات، مطالباً إياهم بالإبلاغ عن مكانها فور عثورهم عليها.

ومن جهة أخرى قالت سيئول إنها تفكر جدياً في الانسحاب من اتفاقية عام 2018 حتى تكون طليقة اليد بشكل أكثر فعالية للرد على استفزازات نظام بيونغيانغ اللاإنسانية والمهددة بالأخطار الصحية والبيئية. ومن وجهة نظري أن هذا سوف يزيد من احتمالات الأنشطة العسكرية والمناوشات بين الكوريتين على طول الحدود المحصنة.