لا تزال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، تثير الجدل بين المراقبين، على الرغم من مرور قرابة أسبوعين عليها، وعلى الرغم من أنها ليست الزيارة الأولى له خارج روسيا، بعد نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية، في فبراير عام 2022. ورغم أن زيارته هذه شملت فيتنام أيضاً، إلا أن الجدل متركز على زيارته لكوريا الشمالية.

وربما السبب في هذا الجدل يكمن في جانبين. الأول، المغزى والهدف من هذه الزيارة، لدولة يعتبرها بعضهم هامشية، بل بعضهم يراها منبوذة في النظام الدولي. ويكمن الجانب الآخر، حول القيمة المضافة التي يمكن أن تقدمها كوريا الشمالية إلى دولة بحجم روسيا، ذات الطموحات العالمية.

قد تكون كل الاحتمالات والسيناريوهات التي حركت الرئيس الروسي إلى خارج بلاده، كانت واردة عند المراقبين، إلا احتمال زيارته إلى كوريا الشمالية، وعقد شراكة استراتيجية معها. واستبعاد هذا الاحتمال، يعود إلى أن كوريا الشمالية ليس لديها ما تقدمه لروسيا في صدها لمحاولات الغرب على عزله. لكن يمكن الاستنتاج من ردة فعل الجوار الجغرافي لبيونغ يانغ، مدى المفاجأة التي تركتها الزيارة، خاصة بعد الإعلان عن شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين، وما تعطيه من إشارات إيجابية لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية بين البلدين، بعد تلك الزيارة التي قام بها بوتين لكوريا الشمالية في عام 2000.

هذه الزيارة، في الحقيقة، تبدو وكأنها استكمال لجولة آسيوية دشن بوتين بها مرحلته الرئاسية الجديدة، الممتدة إلى عام 2030، وذلك بزيارة إلى الصين، في 15 من مايو الماضي، حيث اعتبر الكثيرون بأن تلك الزيارة وما تمخض عنها من تعبيرات سياسية، تمثلت في استقبال بكين له، وكذلك ما احتوته كلمته أثناء الزيارة، حيث قال وقتها: «سوف نعمل على تحديد مصيرنا بأنفسنا، وبالتعاون مع شركائنا، ونحن منفتحون للتعاون مع الجميع، الذين يرون روسيا شريكاً موثوقاً»، وبالتالي، المشترك بين روسيا والدول الثلاث، هو الأيديولوجيا الشيوعية والعلاقات التاريخية، وهذا المحرك في الحقيقة ضعيف خلال هذه المرحلة.

هناك عناصر تتسم كونها موضوعية، تعمل كمحركات التقارب لدى كل طرف. ففي حين أن روسيا تسعى من هذا التحرك، إلى إقامة تحالف مع عدد من الدول تحمل توجهات رافضة للغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي تتمثل في تقويض السيادة الوطنية للدولة.

فإن الصين تبدو هي الأكثر براجماتياً من واقع التعامل مع الجميع، حتى مع الولايات المتحدة، فهي مهادنة، ولا تريد التصارع معها، بما فيها قضية تايوان، واستراتيجية الصين الموحدة. أما عن محرك كوريا الشمالية، فإن البعد الغذائي هو أساس هذا التحرك، حتى لا يثور الشعب، وروسيا لديها من القمح لتساعد به بيونغ يانغ. أما فيتنام، فهي لديها دبلوماسية «الخيزران»، أو ما يعرف بدبلوماسية تنويع العلاقات مع الجميع، دون الدخول في تنافسات الدول الكبرى.

نستطيع القول إن السلوك السياسي الروسي الخارجي، يتطابق مع الخطاب السياسي للرئيس بوتين في مرحلته الجديدة، فهو، كما يبدو، يؤسس لمرحلة جديدة، ليس فقط لبلده، ولكن لترسيخ المفهوم المتداول على أن العالم يتجه نحو التعددية القطبية.

وإذا كانت الملاحظة التي يمكن تسجيلها في جولته الآسيوية حتى الآن، أنها حتى الآن اقتصرت على الدول الحليفة تقليدياً، من حيث الأيديولوجيا السياسية التي تتبناها تلك الدول، وهي الشيوعية، إلا أن هذا الأمر لم يعد موجوداً لدى هذه الدول، فالبراغماتية السياسية والاقتصادية، هي المحرك فيها، سواءً من روسيا أو الصين وفيتنام بشكل واضح وصريح، وحتى لو أردنا كوريا الشمالية، سنجد أن البعد الاستراتيجي في هذه العلاقة، وهو الحفاظ على النظام، هي المحرك. فإذا نحن ندور في نفس الدائرة المنتمية إلى الواقعية السياسية في النظام العالمي.

شيئان اثنان كان يحاول الغرب والولايات المتحدة عملهما ضد روسيا، منذ نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية:

الأول، عزل روسيا عن المجتمع الدولي، وملاحقة الرئيس بوتين قضائياً، من خلال المحكمة الجنائية الدولية. أما الثاني، فهو منع إقامة تحالف بين الثلاثي المضاد للسياسة الأمريكية، روسيا والصين وكوريا الشمالية، ولكن يبدو أن تلك المحاولات ما زالت فاشلة، ولم تتحقق حتى الآن، وعلينا أن ننتظر ونرى ما سيحدث خلال الأيام المقبلة.