أرقام صادمة تلك التي كشفت عنها آخر استطلاعات الرأي العام الأمريكي. فهي تكشف عن أمة فقد شبابها الثقة في سياسييها ونخبتها بل ونظامها السياسي كله.

وتلك واحدة من مؤشرات الوهن الذي يصيب الأمم. فالمسألة لم تعد تتوقف على انهيار شعبية الرئيس بايدن ولا عدم ثقة الشباب في منافسه ترامب، وإنما امتدت لتطال ما ومن هم أبعد من ذلك بكثير.

فليس سراً أن بايدن الذي فاز في 2020 بأصوات الشباب بفارق 23 نقطة بل وقاموا بالتطوع لحملته من أجل هزيمة ترامب، هو نفسه بايدن الذي انخفضت شعبيته بينهم اليوم حتى أن بعضهم يفكر في التصويت لترامب أو الإحجام عن التصويت بالمطلق.

والأسباب وراء تلك الحالة كثيرة، بعضها يتعلق بالأوضاع الاقتصادية لتلك الفئة العمرية والقلق بشأن قدرته في ذلك العمر على تولي أعباء الرئاسة، بينما يتعلق بعضها الآخر برفضهم الطابع الامبراطوري لسياسة بلادهم الخارجية بما في ذلك سياستها تجاه غزة.

لكن غياب ثقة الشباب تذهب لما هو أبعد من منصب الرئاسة. فقد أظهرت آخر استطلاعات الرأي أن حوالي ثلثي الشباب، بين الثامنة عشرة والثلاثين عاماً، يرون أن «كل» السياسيين الأمريكيين في «كافة» المناصب السياسية فاسدون وأنهم يتربحون من مناصبهم.

كما يرى نصف المستطلعة آراؤهم من الفئة العمرية ذاتها أن «النظام السياسي لا يمثل من هم مثلهم ولا يعبر عنهم».

ورغم أن تلك الأرقام صادمة من حيث دلالاتها إلا أنها ليست مستغربة إذا ما وضعت في سياق ما يجرى فعلاً في الولايات المتحدة. فالدور الخطير الذي يلعبه المال في السياسة بالولايات المتحدة، رغم أنه يأخذ الشكل القانوني، إلا أنه يجسد أحد أنماط الفساد السياسي، أو الرشوة المقننة، إذا جاز التعبير.

فلأن الحملات الانتخابية بأمريكا لا يأتي تمويلها من المال العام، فإن الأفراد والمؤسسات والشركات الخاصة، فضلاً عن جماعات المصالح هي الممول الرئيسي للحملات الانتخابية لكل المناصب. وتلك الأموال تنفق مقابل العناية بمصالحها متى فاز متلقيها بالمنصب.

ومن هنا، يصبح صاحب المنصب أسيراً لجماعات المصالح، على حساب المواطن العادي. لذلك، من الطبيعي أن يقول الشباب، في الاستطلاع، إن أصحاب المناصب لا يعبرون عن مصالحهم. وقانون تمويل الحملات الانتخابية حافل بالثغرات التي تستخدم فعلاً للتحايل عليه ليس فقط من جانب أصحاب المصالح وإنما أيضاً من جانب السياسيين والمرشحين أنفسهم.

وهو ما يدعو الشباب لاعتبار تلك الأموال فساداً يحرم من هم مثلهم من أن تحترم مصالحهم.

ولأن المسألة لا تقتصر على صاحب هذا منصب أو ذاك وإنما تشمل جميع المناصب المنتخبة، بالكونغرس والرئاسة، فإن المؤسستين ذاتهما متهمتان عند المواطن العادي مثلهما مثل الأفراد من شاغلي المناصب فيهما.

أما المؤسسة الوحيدة غير المنتخبة، والتي يفلت رموزها من فخ تمويل الحملات الانتخابية، فهي المحكمة العليا. لكن الشباب والأمريكيين عموماً يدركون أن المحكمة صارت أكثر تسييساً من أي وقت مضى.

وغني عن القول أن الاستقطاب الحزبي والسياسي الحاد يمثل سبباً آخر من أسباب انعدام الثقة، فهو يؤدي في كثير من الأحيان إلى شلل في الحياة السياسية وعجز عن اتخاذ القرارات وفشل في إصدار القوانين التي تصب في مصلحة الأمريكيين بما فيها تمويل البرامج الاجتماعية المختلفة.

وفي الوقت الذي لا تستجيب فيه تلك المؤسسات لمطالب الحياة اليومية له، فإن الأمريكي العادي يجد بلاده تنفق المليارات على المعدات العسكرية، سعياً للاحتفاظ بتربعها على قمة العالم كإمبراطورية عظمى.