إنها دورة الانتخابات الرئاسية الأمريكية المتأرجحة، أو بالأحرى، الأحوال بالغة التأرجح التي أدت إلى قدر غير مسبوق من عدم الثقة وافتقاد اليقين وضياع البوصلة.
بوصلة السياسة المختلة هي مجرد واجهة لاختلالات أكبر. من كان يتصور أن ينتهي الحال بالناخبين في أقوى ديموقراطيات العالم والدولة الأكثر تأثيراً، للاختيار بين مرشحين (حتى اللحظة)، أحدهما هو الأكبر سناً على الإطلاق في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني هو الأكثر إثارة للجدل والشقاق؟!
يتابع سكان الأرض مجريات الانتخابات الأمريكية، فبالإضافة إلى الجانب «الترفيهي» حيث مهارة الدعاية وحذاقة التراشقات المتبادلة والاتهامات التي لا تهدأ بين الفريقين وأتباعهما، سواء عبر منصات الإعلام التي تؤيد هذا بصراحة أو تدعم ذاك بكل وضوح، أو من خلال الساسة الواقفين على جبهتين متناقضتين، هناك شق نفسي لا يخلو من نظرة متيمة ببلاد العام سام، وديموقراطية العم السام.
لكن ديموقراطية العم سام أصابها ما أصابها من لكمات أدت إلى كدمات. استطلاعات رأي عدة أشارت إلى أن من أكثر ما يقلق الأمريكيين هذه الآونة تعرض ديموقراطيتهم لأخطار داهمة.
صحيح أن أولويات الصحة والتعليم والاقتصاد وسوق العمل تحتل مكانة الصدارة المثيرة للقلق في أي انتخابات، لكن هذه المرة تضاف إليها الديموقراطية، تلك الديموقراطية التي طالما دغدغت مشاعر الحالمين بنمط الحياة الأمريكي، وجوهره الديموقراطي.
الديموقراطية التي ابتدعت فكرة المناظرات – التي هي أقرب إلى المناطحات - السياسية بين المرشحين وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه في أعقاب الليلة التاريخية التي تابع وقائعها نحو 51 مليون شخص، لا لروعتها وبهائها، بل لنتائجها الكارثية المروعة.
ويكفي أن عدداً من أكبر الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية جاهرت بدعوة الرئيس بادين للانسحاب من سباق الرئاسة، رغم أنها كانت ضمن الواقفين على جبهته في مواجهة ترامب.
فإذا كان هذا هو حال الإعلام الرصين، الذي تفاجأ أو صدِم أو وجد نفسه مضطراً لتغيير موقفه في ضوء نتيجة المناظرة الأولى، فما بالنا بالناخبين؟
بعيداً عن أبرز ما جاء في المناظرة، واللحظات الأكثر إثارة في المواجهة، والكلمات التي اعتبرها البعض «مسيئة» أو «عنصرية» وغيرها من «توابل» المشاهدة والتي سرعان ما ستختفي من شريط «الأخبار العاجلة»، يجد الناخب الأمريكي نفسه في صدمة ما بعد المناظرة مضطراً إلى البحث عن موقف يعتنقه.
لم تعد المسألة منافسة كلاسيكية بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ومحاولات كل منهما الإضافة لرصيده عبر جذب ما يمكن جذبه من «المتأرجحين».
تحولت الأجواء إلى هزة عنيفة بين أنصار الحزب الديموقراطي. أما أنصار ترامب، فيشعرون بأن مرشحهم حقق نصراً عظيماً.
ويعضد من ذلك الشعور تأكيد الإعلام أن الفائز في المناظرة كان ترامب، لا لأسباب تتعلق برجاحة العقل وجودة الأفكار وروعة البرنامج الانتخابي بالضرورة، ولكن لأن أداء الطرف الآخر جاء كارثياً.
وبعيداً عن حجم الكارثة، فإن أمريكا وديموقراطيتها وأجواءها الانتخابية المتميزة ليست وليدة اليوم أو الأمس. أغلب الظن أن القوة الأكبر في العالم ستتعامل مع الوضع الكارثي الآني بطريقة أو بأخرى.
تبقى أمريكا دولة مؤسسات، لا دولة أفراد، حتى وإن تسبب أفراد في أزمة كبيرة كالتي تمر بها، لكنها ستمر.
ونعود إلى فقدان البوصلة وما ينتج عنه من شعور عام بالتأرجح. ويبدو أن التصويت المتأرجح لن يكون مقتصراً هذه المرة على ولايات بعينها، بل ربما يكون عنوان التصويت في نوفمبر المقبل.
الولايات المتأرجحة هي تلك المعروفة بانقسام سكانها سياسياً بشكل كبير، والتي تشهد حركة ذهاب وإياب أعلى من المعتاد بين الديموقراطيين والجمهوريين.
إنها «ولايات ساحة المعركة» التي يستهدفها المرشحان بشكل مكثف أملاً بالتأثير في المتأرجحين.
في الانتخابات الحالية، قد يشهد التأرجح توسعاً وتمدداً. وربما يصيب التأرجح من ظل وفياً على عهد حزبه. حتى ولو لم يهجره لصالح الحزب المنافس، فيكفي شيوع حالة فقدان الثقة وتنامي القلق.
كل هذا، ولم يبدأ بعد حديث الأخبار الكاذبة وأيادي «سوشيال ميديا» الملطخة بالفبركة والتوجيه والتأثير. الوضع بالفعل مربك ومثير للتأرجح.