كثير من الساسة المسؤولين والمحللين وأصحاب الرأي والمدونين ونحوهم الذين يعالجون وقائع الحرب الإسرائيلية على غزة، يعتقدون أن بنيامين نتنياهو قد فشل في تحقيق كل أهدافه من وراء هذه الحرب.

بعض المتبنين لهذا الاعتقاد والمروجين له، في أوساط الفلسطينيين والعرب، يستحوذون على بنية معرفية أكاديمية أو عملية معتبرة حول مسار الصراع وخطه البياني التاريخي في الرحاب الفلسطينية وجوارها، بينما يتبين للمتابع عن كثب أن البعض الآخر وهم الغالبية، قد التحقوا بالركب على عجل ولعلهم يفتقرون لهذه البنية.

ما نتصوره أن كلاً من هؤلاء وهؤلاء، المحترفين منهم والهواة، وقع لسبب أو آخر وبقدر أو آخر، ضحية لعدم التمييز بين ما يعرف بالأهداف المعلنة والأهداف غير المعلنة للدول أو الوحدات المنخرطة في معترك العلاقات الدولية، وهو تمييز تقليدي معلوم نظرياً ومبثوث في أدبيات السياسة الخارجية، بمثل ما هو منتشر ومتداول عملياً في الخطابات التي تصدرها الوحدات الدولية إلى عوالم الآخرين.

مثلاً، تصرح قوى الناتو على جانبي الأطلسي، بأن وقوفها خلف الطرف الأوكراني ضد الهجوم الروسي، ينطلق من الدفاع عن القانون الدولي والاستعصام بشرائع الأمم المتحضرة، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها وصيانة استقلالها ووحدتها الإقليمية، المضمونة بالمواثيق والعهود الدولية ذات الصلة..

 وهذه ونحوها أهداف تنم عن مشاعر إنسانية راقية ومقبولة أخلاقياً وحقوقياً. بيد أن ما تضمره هذه القوى ولا تعلنه ولا تبوح به إلا سهواً، إنما يتعلق بنيتها في التمدد الزاحف شرقاً نحو تخوم روسيا، وإيقاع الأخيرة ما أمكن في أحابيل عقوبات ثقيلة وعملية استنزاف متعددة الأنماط، بما يعيق عودتها إلى المنافسة والمزاحمة على قمة النظام الدولي.

ما يضطلع به نتنياهو في حربه على غزة منذ أحداث السابع من أكتوبر ينطوي على شيء من هذا القبيل، فهدفه المعلن يدور حول ممارسة «حق دولته في الدفاع عن نفسها»، وكأن الصراع مع الفلسطينيين لم يبدأ إلا في 7 أكتوبر!.

. وتحت هذا العنوان العريض المبهر، يتحدث عن استعادة المحتجزين الإسرائيليين، وتدمير حركة «حماس»، وضمان أن غزة لم تعد تشكل خطراً على الأمن الإسرائيلي.. هذا بالإضافة أحياناً إلى هزيمة «محور الشر».

ما نجادل به هنا أن نتنياهو، كمتمرس في مجالات السياستين الداخلية والخارجية والإعلام والعلاقات العامة، لا يمكن أن يكون غافلاً كلياً عن مدى صعوبة، إن لم تكن استحالة، إنجاز هذه الأهداف مجتمعة.. ثم إنه لو جاز قبول هذا الافتراض، أي الغفلة، بتأثير شدة الغضب في بدايات الحرب، فإنه لم يعد جائزاً بعد شهور، بحكم نتائج القتال والاشتباك في الميدان، والنصائح التي يخصه بها كثير من معارضيه وبعض أنصاره ومؤازريه من كبار الخبراء العسكريين والسياسيين.

العبرة، أن الرجل يقصد بـ «حرب الإبادة» التي يتولى كبرها، تحقيق أهداف أخرى علاوة على تلك التي يلوكها على مدار الساعة.. مؤداها «الانتقام التاريخي من قطاع غزة»، فهذه المنطقة، التي لا تزيد على 1.5% من مساحة فلسطين التاريخية، وينحشر فيها زهاء سبع الشعب الفلسطيني، شكلت لإسرائيل غداة إعلان قيامها واحداً من أكبر مصادر الصداع والوجع والتهديد الأمني والسياسي.

غزة 1948 وما بعدها، شهدت تكوين أول كيان سياسي فلسطيني، حتى من قبل أن تستبين المعالم الكاملة للنكبة، هو حكومة عموم فلسطين (أكتوبر 1948).. وفيها تشكلت أول طلائع التنظيمات الفلسطينية المسلحة (الكتيبة 141 عام 1955)، وأول أفواج الجيش النظامي التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية (1964).

وبين جوانحها شب عن الطوق وتمرد على حصاد هزيمة 1948، بالقول والفعل، معظم مؤسسي الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها فتح ثم حماس. وهي البقعة الوحيدة في العالم التي ظلت ترفع اسم فلسطين وعلمها الوطني، تحت الإدارة المصرية بين عامي 48 و67. ومنها انطلقت شرارة الانتفاضتين الشهيرتين الأولى والثانية.

تفاصيل هذه الأدوار والوقائع، التي تمثل غيضاً من فيض، هي التي ساقت إسحاق رابين إلى أن يتمنى عام 1992 لو أنه «استيقظ ذات صباح ووجد غزة وقد ابتلعها البحر».

لكن ظاهر الحال يؤكد أن نتنياهو يجتهد ما وسعه الجهد وموت الضمير في تحقيقها.. ذلك ليس بإغراق غزة في البحر، وإنما بمحاولة غمرها في لجة من النار والدم والدمار الشامل ودفنها في البر.. وعليه، فإن مقولة إنه لم يحقق «كل أهدافه» تبدو بحاجة لكثير من التدبر، وربما إعادة النظر.