من سيدات عمان الماجدات من ذوي الذكر الكثير في تاريخ سلطنة عمان وتاريخ الأسرة البوسعيدية الحاكمة، موزة ابنة الإمام أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية.
لم تكن مجرد امرأة عمانية عادية وإنما كانت بحق صاحبة شخصية ملهمة تميزت بالكفاءة الإدارية ورباطة الجأش وقوة المراس، ما مكنها من مواجهة التحديات والظروف العصيبة التي مرت على عمان في زمنها، ولاسيما لجهة تسلمها السلطة مؤقتاً من أجل تهيئة الحكم لابن أخيها سعيد بن سلطان الذي حكم عمان وزنجبار من 1806 إلى 1856.
تقول عنها عمتها سالمة بنت سعيد بن سلطان (1844 ــ 1924) المعروفة باسم «إيميلي روته» (بسبب زواجها من تاجر ألماني) ما مفاده أن موزة كانت نموذجاً في الأسرة، وأن قصتها تدحض كل ما قيل عن المرأة الشرقية من نقص وضعف. وهذا ما أكدته الوثائق والتقارير البريطانية الخاصة بعمان، ومنها وثيقة ضمن مجلد لشركة الهند الشرقية البريطانية، تقول عن موزة إنها «شخصية تتمتع بالنفوذ وتحظى بالاحترام، ما يجعلها جديرة بالاهتمام بين قريناتها العمانيات»
ولسرد قصة موزة نعتمد في هذه المادة على ما كتبته الباحثة العمانية الدكتورة أحلام بنت حمود الجهورية، ونطعمه بمعلومات من مصادر أخرى متنوعة، ولاسيما كتاب «الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين» للمؤرخ العماني حميد بن محمد بن زريق بن بخيت الشهير باسم ابن زريق العماني (1783 ــ 1873)، لاسيما وأن ابن زريق أضاف إلى كتابه لاحقاً فصلاً خاصاً بسيرة السلطان سعيد بن سلطان (ابن أخ المترجم لها) تحت عنوان «بدر التمام في سيرة السيد الهمام سعيد بن سلطان»، ناهيك عن أن المؤلف أتى على الإشارة إلى موزة مراراً وتكراراً خلال حديثه عن الأحداث ذات الصلة بأئمة الدولة البوسعيدية وحكامها، لكن دون ذكر اسمها صراحة من باب الأدب والالتزام بالتقاليد، مكتفياً بعبارة السيدة ابنة الإمام.
ونعتمد، علاوة على المصدرين السابقين على كتاب «عمان في عهدي الإمام سعيد والسيد سلطان بن أحمد البوسعيدي (1783 ــ 1804) لمؤلفه الدكتور صالح بن عامر الخروصي، وعلى مذكرات الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان التي نشرتها بالألمانية لأول مرة في عام 1877 لهدف خاص هو أن يقرأها أبناؤها الثلاثة (وهم ولد وبنتان) حينما يكبرون، ثم تمت ترجمتها إلى الإنجليزية والعربية والفرنسية لاحقاً تحت عنوان «مذكرات أميرة عربية من زنجبار».
ولدت موزة في مدينة الرستاق في تاريخ غير معلوم، لكنه يرجح أن يكون عام ميلادها هو 1749م، ونشأت في كنف والدها الإمام أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية (1694 ــ 1783)، ووالدتها المنتمية إلى قبيلة الجبري من قرية الحرادي بولاية بركاء. أشقاؤها هم السيدان سلطان بن أحمد بن سعيد وسيف بن أحمد بن سعيد، وإخوتها هلال وسعيد وقيس وطالب ومحمد، ولديها أختان هما عفراء وميره.
اختار لها والدها اسم موزة، وهو اسم عربي فصيح موجود في القواميس العربية وشائع في عمان ودول الخليج، ومعناه الجواهر واللؤلؤ الأبيض اللامع القوي جداً، علماً بأن الاسم اشتهر بعد نهاية القرن السادس الهجري، وأكثر من ذلك بعد نهاية القرن الثامن الهجري طبقاً للمؤرخ بن حويرب. الذي أخبرنا في هذا السياق أنه كانت هناك امرأة اسمها موزة بنت عجلان ابنة أمير المدينة المنورة تزوجها الشريف حسن بن عجلان وأنجب منها الشريف بركات بن حسن بن عجلان جد أشراف مكة الذي كان يلقب بابن موزة.
لقد كان لنشأة موزة في بيت والدها الإمام دور مؤثر في تشكيل شخصيتها، حيث تعلمت على يديه شؤون السياسية وأساليب الإدارة والحكم منذ صغرها. وحينما بلغت سن الزواج اقترنت بقريبها سيف بن محمد بن علي البوسعيدي، الذي تزامنت وفاته تقريباً مع مقتل شقيقها السيد سلطان، لكنها تعاملت مع الفجيعتين المتتاليتين برابطة جأش وصبر وثبات. وللعلم فإن موزة لم تنجب أطفالاً، ولم تتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجها. وتقول المصادر التي اطلعت عليها أن موزة كانت تسكن في حصن الفلج الذي بناه شقيقها سلطان بن أحمد بن سعيد سنة 1799م، حينما بلغها خبر مقتله المفاجئ في 16 نوفمبر 1804، وكان معها آنذاك أبناء القتيل وهما سعيد وسالم اللذان قامت برعايتهما وتربيتهما وصقل شخصيتهما.
وبعد مقتل شقيقها سلطان إمام مسقط، اختير ابنه الأكبر سعيد لخلافته بموافقة أخيه سالم، ولكن أعمام سعيد وسالم عارضوا ذلك، خصوصاً وأن الحاكم الجديد سعيد بن سلطان كان طفلاً في التاسعة من عمره. وفي ظل هذه الظروف العصيبة، قامت موزة بدور حاسم في تاريخ بلدها. إذ أعلنت توليها الحكم مؤقتاً كوصية على ابن شقيقها ريثما يبلغ سن الرشد ويتولى زمام المسؤولية بنفسه.
وتفيد المصادر التي اطلعت عليها أن تحديات جمة واجهت موزة بعد استلامها حكم عمان غير أن أهم تحدٍ واجهته هو الحصار الذي كان يضربه إخوتها سعيد وقيس على العاصمة مسقط، فتعاملت مع الوضع بحنكة وشجاعة، حيث طلبت من شيوخ القبائل مساعدتها، واستدعت إبن شقيقها الآخر سيف وهو بدر بن سيف بن الإمام أحمد بن سعيد، من الزبارة، حيث كان يقيم آنذاك، لمساعدتها.
وبسبب استمرار الحصار الخانق على مسقط ونفاد الطعام وازدياد معاناة السكان، قررت موزة اللجوء إلى القوة لفك الحصار، غير أن ما كان لديها من البارود لم يكن يكفي إلا لمعركة واحدة، كما لم يكن لديها ما يكفي من الحديد، لذا أمرت بجمع كل ما في المدينة من مسامير ورصاص ونحاس لصهرها وتحويلها إلى قذائف وطلقات، وجمع حصي مناسبة الحجم لتكون ذخيرة لقذائف المدافع. إلى ذلك أمرت بصهر كمية من النقود الفضية المتوفرة داخل خزائن القصر لصنع طلقات للبنادق.
وبعد أن تيسر لها هذا القدر من العتاد الحربي بدأت الهجوم على القوات المحاصرة للعاصمة، ونجحت بصمودها وبأسها وحنكتها من فك الحصار عن مسقط والموافقة على توليها الحكم مؤقتاً لصالح ابن أخيها السيد سعيد بن سلطان.
وهكذا راحت موزة، بعد انتصارها، تدير البلاد وتنظم أمورها إلى أن بلغ السلطان سعيد بن سلطان سن السابعة عشرة، فتسلم منها الحكم، ونجح الأخير خلال سنوات حكمه مذاك وحتى تاريخ وفاته عام 1856، وهو في طريق عودته من مسقط إلى زنجبار على متن الفرقاطة «كوين فيكتوريا» في بناء إمبراطورية مترامية الأطراف ما بين آسيا وأفريقيا هي الأوسع في تاريخ عمان الحديث، بل كان للرجل تاريخ حافل بالإنجازات العسكرية والتجارية والحضارية التي تعدت مساحة عمان الجغرافية لتشمل مناطق من الضفة الغربية للخليج العربي وشرق أفريقيا. ووصلت سفنه التجارية إلى نيويورك، وخطب وده الملوك والرؤساء، وأهدى ملك بريطانيا العظمى سفينة حربية تحمل سبعين مدفعاً.
وقد وصفه أحد القباطنة الفرنسيين الذي رآه لأول مرة سنة 1846 قائلاً إنه: «كان جليل القامة، نبيل المنظر، عظيم الأبهة، وكان سياسياً حاذقاً متمسكاً بالدين دون غلو، أنيساً بشوشاً عظيم العواطف، ويستحق أنْ تكتب على ضريحه عبارة (إنه كان قريباً للسلم، وقريباً إلى الحرب، وقريباً إلى قلوب مواطنيه)».
وعن موزة تحدثت الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان في مذكراتها المشار إليها آنفاً، والتي وصفتها باتريشيا روميرو، كاتبة مقدمة الطبعة الثانية منها سنة 1989 بقولها: «مذكرات هذه الأميرة العربية تمثل وثيقة لا مثيل لها في تاريخ المحيط الهندي وشرق أفريقيا طوال القرن التاسع عشر»، قائلة إن عمتها موزة: «تخلت عن الشكليات وظهرت أمام وزرائها محجبة بالشيلة فقط، أي بالملابس التي ترتديها المرأة العمانية لدى خروجها، ولم تبالِ بما كان يعيبه العالم، وإنما سلكت طريقها بثبات ومهارة ونشاط».
وأضافت ما مفاده أن عمتها فاجأت الجميع بقرار توليها الحكم، رافضة أي اعتراض، فما كان من رجال القصر إلا الانصياع لها والالتقاء بها يومياً لتقديم تقاريرهم لها واستلام الأوامر منها، وطلب رضاها لأنها كانت تراقب كل شيء بعين فاحصة كان يخافها المتقاعسون والفاسدون.
وفي مكان آخر من مذكراتها روت سالمة كيف أن عمتها موزة كانت شجاعة مقدامة وغير مبالية بسلامتها الشخصية، ومن ذلك أنها في أوج حربها مع خصومها خرجت ليلا متنكرة بملابس الرجال لامتحان ولاء جنودها ولاستجلاء ما سمعته من أن خصومها عمدوا إلى رشوتهم للانقلاب ضدها، فالتقت بأحد الجند وحاولت إغراءه بالمال، لكن الجندي انتفض وانفعل وأكد ولاءه لولية نعمته، الأمر الذي أسعدها وطمأن قلبها ورفع من معنوياتها.
استمرت موزة في دعم ابن شقيقها السلطان سعيد بن سلطان في إدارة حكم البلاد وتيسير شؤونها، حتى وافتها المنية في تاريخ غير معلوم، لكنه يرجح أنها توفيت في عام 1832 خلال سفر السلطان سعيد بن سلطان إلى زنجبار للمرة الثانية، وذلك طبقاً لما ذكره المؤرخ ابن زريق العماني. ومن صور دعمها لحكم الرجل الذي ربته واعتنت به صغيراً، بعد أن غدا سلطاناً، ما نجده في الوثائق البريطانية وتقارير شركة الهند الشرقية. فقبيل وفاتها، وتحديداً في عام 1831، سافر السلطان سعيد بن سلطان إلى زنجبار، تاركاَ ابنه هلال بن سعيد وابن أخيه محمد بن سالم وابن عمهم سعود بن علي (شيخ بركاء) لينوبوا عنه في غيابه، لكن ما حدث هو أن الشيخ سعود دعا أولاد عمومته إلى جولة في المنطقة الداخلية من البلاد واستضافهم في حصنه ببركاء، وما أن صاروا داخل الحصن حتى أوصد أبوابه عليهم، معلناً أنهم سجناء.
وفي ظل هذا الوضع الخطير، فطنت موزة لما يحاك ضد سلطة ابن أخيها السلطان سعيد بن سلطان، فتحركت على الفور، حيث كتبت الرسائل لكل من حاكم بومباي والمقيم البريطاني في الخليج، مناشدة إياهما إرسال الدعم، فرضخ المقيم البريطاني لطلبها وكلف مساعده بإرسال سفن حربية من بومباي إلى مسقط لردع أي عدوان قد يمتد إلى الأخيرة من الداخل، ولطمأنة سكانها الذين تخوفوا من فلتان الأوضاع، وهو ما أسهم في عودة الأمن والاستقرار إلى ربوع عمان، وفشل محاولة الاستيلاء على السلطة.