«تعتبر الرقائق من عوامل التمكين الاقتصادي والعسكري الرئيسية للعالم الصناعي.
وقد وصف رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول مؤخراً الريادة في مجال تكنولوجيا الرقائق بأنها ذات أهمية قصوى لبقاء بلاده ناهضة اقتصادياً وصناعياً».
هذا ليس كلامنا وإنما كلام كتبه كل من خبير الاستراتيجيات الاقتصادية والمحاضر في جامعة كولومبيا الأمريكية وكلية لندن للاقتصاد «ديفيد غولمان» وزميله الخبير المالي والاقتصادي والتقني الأمريكي «هنري كريسيل» في مقال مشترك بصحيفة «وول ستريت جورنال» في 23 ديسمبر 2018. ورغم مرور أربع سنوات على نشر المقال، إلا أنه صالح للقراءة والتأمل حتى اليوم وربما لسنوات قادمة.
وسبب صلاحيته هو أن الحديث مذاك وحتى اليوم لم يتوقف عن أهمية الرقائق الإلكترونية كمفتاح لابتكار المنتجات المتطورة.
وبالتالي التحكم في الشأنين الاقتصادي والعسكري على مستوى العالم وتوجيههما. وبعبارة أخرى فإن الدولة الصناعية التي تنجح في صناعة الرقائق وتصميمها وتطويرها ستكون، من دون شك، في مقدمة الركب العالمي اقتصادياً وعسكرياً، كون الرقائق الإلكترونية تتحكم في معظم الأجهزة الصناعية الحساسة، بدءاً من الأجهزة الإلكترونية والمركبات وانتهاء بالطائرات والقاذفات والصواريخ الحربية.
ولهذا السبب، تقوم دول مثل الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان بتخصيص مئات المليارات من الدولارات من صناديقها الوطنية من أجل الإنفاق على تطوير صناعة هذه السلعة وما يتصل بها من أبحاث.
فمثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد الاقتصاد العالمي الأول والبلد الذي يقود العالم في هذا المجال، وافق الكونغرس الأمريكي في عام 2022 على قانون الرقائق والعلوم Chips and Science Act .
والذي بموجبه تم تخصيص 53 مليار دولار كمجرد حوافز فيدرالية للشركات كي تستوطن الولايات المتحدة وتستثمر المزيد من الأموال في صناعة الرقائق وأبحاثها من أجل أن تبقى الولايات المتحدة في طليعة العالم تكنولوجيا، وتحافظ على مركزها وتعززه باعتبار ذلك مهمة وطنية كبرى.
وفي الصين، التي كانت إلى وقت قريب تعتمد كلياً في صناعة الرقائق على شركة TSCM التايوانية (قبل أن تحظر عليها واشنطن التعاون مع بكين) استثمرت حكومتها مليارات الدولارات عاماً بعد عام في صناعة الرقائق وأيضاً في مجال الذكاء الاصطناعي الذي تفوقت فيه غريمتها الأمريكية بفضل شركة Nvidia التكنولوجية الأكثر قيمة في العالم بحوالي 3 تريليونات دولار. أما الاتحاد الأوروبي فقد أقر العام الماضي سياسة مماثلة من خلال «قانون الرقائق الأوروبي» وبموجبه سوف يتم استثمار نحو 43 مليار يورو في هذه الصناعة حتى نهاية العقد الجاري.
وإذا ما عدنا إلى القانون الأمريكي نجد أنه، حتى قبل دخوله حيز التنفيذ، ولد موجة من النشاط داخل الولايات المتحدة وخارجها.
إذ قدمت مئات الشركات بيانات اهتمامها وطلبت ما مجموعه 70 مليار دولار من الإعانات، مع تعهدها استثمار مئات المليارات من الدولارات في هذا القطاع لبناء مرافق جديدة ومراكز أبحاث متطورة لتصنيع الرقائق، علماً بأن تكلفة أي منشأة جديدة للرقائق يمكن أن تتجاوز تكلفة بناء محطة نووية. حيث حصلت شركة «إنتل» (عملاق صناعة الرقائق الأمريكية) في مارس 2024 على 8.5 مليارات دولار في شكل منح.
إضافة إلى 11 مليار دولار في شكل قروض، لتعلن أنها سوف تستثمر 100 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة. وعلى نفس المنوال حصلت شركة TSMC التايوانية للرقائق على منحة بقيمة 6.6 مليارات دولار وقروض بقيمة 5 مليارات دولار أمريكي كدعم لثلاثة مصانع رقائق تملكها في ولاية أريزونا، وكدعم أيضاً لخططها باستثمار 65 مليار دولار داخل الأراضي الأمريكية.
ويمكن القول إن المبالغ الضخمة التي منحت كحوافز والمبالغ الضخمة الأخرى المستثمرة في هذه الصناعة تحتاج باستمرار إلى مضاعفتها لأن ما سينفذ عبره من إنجازات اليوم سوف يغدو، في غضون سنوات قليلة، قديماً وبحاجة إلى التطوير والتحديث في سباق يبدو أنه سرمدي ولن يتوقف.
ومن هنا قيل إن «قانون الرقائق والعلوم» الأمريكي يحتاج إلى تنشيط مستمر وتقديم نسخة ثانية وثالثة منه من أجل أن تنافس الولايات المتحدة بشكل كامل وسليم غيرها من الدول وتحقق أهدافها، خصوصاً مع اشتداد الحاجة لتقنيات حيوية استثنائية ورفيعة في ظل تغير المناخ وزيادة الاحتكاك الجيوسياسي والمنافسة الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة والصين وبين الأخيرة وحلفاء واشنطن في الشرق الأقصى.
والحقيقة التي نختتم بها هي أنه لئن كانت أداة تمكين الدول الصناعية في الماضي هي الفولاذ والحديد، فإن الأداة الجديدة اليوم وفي المستقبل هي الرقائق الإلكترونية، رغم كل التحديات التي تواجه صناعتها وتطويرها وعلى رأسها نقص العمالة الذكية المدربة.