في التداول السياسي للحكم وفق طريقة أو أسلوب الانتخابات البرلمانية، التي تمثل تجربة المجتمعات الغربية نموذجها الكلاسيكي أو التقليدي، فإن نجاح حزب محدد في انتخابات معينة، هو إشارة سياسية إلى فشل الحزب الخاسر في تنفيذ برنامجه السياسي الذي قدمه للشعب قبل تقلده السلطة، أو عدم ثقة الشعب في السياسيين الذين يحكمون البلاد.
وما نراه هذه الأيام من تفاعلات في نتائج الانتخابات التي تجتاح الغرب، خير تفسير لما جاء في الفقرة السابقة، فالفوز الكبير لحزب العمال البريطاني الذي تم تكليف زعيمه، كير ستارمر، من قبل الملك تشارلز الثالث، بتشكيل الحكومة الجديدة، بعد حصوله على 365 مقعداً في مجلس العموم البريطاني، من أصل 650 مقعداً، لهو دليل على عدم ثقة الشعب البريطاني في حزب المحافظين.
وينطبق الأمر نفسه على ما يحصل في باقي دول الاتحاد الأوروبي التي تشهد حالة من صعود أحزاب اليمين، بعضه يُصنف بيمين متطرف، وبعضه يمين وسط، ولعل حالة فرنسا هي الأكثر وضوحاً، بعدما قرر الرئيس إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية (البرلمان) قبل شهر، وإعلان إجراء انتخابات مبكرة، عقّدت من المشهد السياسي الفرنسي، بعدما فشلت ثلاث قوى سياسية من الفوز بالأغلبية، وهي:
تحالف اليسار الذي تصدر الجولة الثانية، ثم جاء تحالف الوسط (معاً من أجل الجمهورية)، المدعوم من الرئيس ماكرون، ثم جاء اليمين المتطرف (التجمع الوطني)، بقيادة جوردان بارديلا، ولكن هذه النتائج أراحت المتخوفين من فوز اليمين المتطرف.
وببساطة، فإن الذي يدفع الناخبين أو الشعوب الأوروبية إلى التصويت ضد حزب معين لصالح حزب آخر منافس، يكمن في ابتعاد الحكومة الحالية عن الاهتمام بأولويات الشعب المعيشية (كما هو حال كل شعوب العالم)، ومن تلك الأولويات، على سبيل المثال ارتفاع الأسعار، وزيادة البطالة والفقر، والنظام الصحي وتقديم أولويات أخرى خارجية.
وفي حالة دول الاتحاد الأوروبي وحالة بريطانيا، سنجد أن التهمة الموجهة من قبل الشعوب الأوروبية لحكوماتها، أنها تركز على دعم أحد أطراف الحرب الأوكرانية الروسية مادياً، بالطريقة التي تؤثر سلباً في المواطن الأوروبي.
كما أن هناك تهمة أخرى أيضاً، بأنها تحاول استعداء الصين، الدولة الصاعدة اقتصادياً، والتي لديها من القدرة في إنقاذ الوضع المأسوي الأوروبي، ولكن الضغط الأمريكي ضمن التنافس الاستراتيجي مع الصين يعرقل التقارب بينهما.
صعود اليمين الأوروبي بشكل عام، هو دليل على أن مسألة تخويف الشعوب من هؤلاء «القادمون الجدد» في الحكومات الأوروبية، سواءً كان في الداخل الأوروبي أو الخارج، ليس إلا نوعاً من محاولة استمالة الناخب الأوروبي، وتشويه هذا التيار ضمن سياسة التنافس السياسي، ولكنه يبدو أن تلك المحاولات تسجل فشلاً في كل مرة، ما يعني أن وصولهم إلى السلطة مسألة وقت فقط، خاصة بعدما حصل الأمر نفسه في إيطاليا، حيث يحكم حزب محسوب على اليمين.
عملياً، مسألة التخوف من صعود اليمين بالطريقة التي كانت قبيل الحرب العالمية الثانية مستبعدة، على اعتبار أن هناك جهات سيادية في كل الدول الأوروبية، تتمثل في المؤسسات التقليدية التي تقوم بدور الحفاظ على مصالح الدولة الوطنية، في مقابل الأهواء الشخصية للسياسيين.
فعلى سبيل المثال، يُعتقد أن نجاح حزب العمال البريطاني خلال هذه الانتخابات، مرجعه نهج الشخصية السياسية الحالية، كير ستارمر، التي تختلف في نهجها السياسي عن جيرمي كوربن، الذي يعتبر أنه كان متطرفاً في مواقفه السياسية الاشتراكية..
فنهج كير ستارمر، أقرب لأن يكون من نهج رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي يتهيأ للمراقب السياسي أن يعتقده من المحافظين في سياسته من نهج حزب العمال.
الأمر سينطبق على باقي الانتخابات الأوروبية، إذ إنه من المستبعد ترك هذه الأحزاب تتصرف بنهج الدولة، دون وضع في الاعتبار خطوط حمر لها، بعدم المساس بالمصالح العليا للدولة، حيث لم تعد الحكومات معزولة عن باقي العالم، ولم تعد السيادة الوطنية مطلقة، فكما أنه هناك قوانين دولية تنظم العلاقات الدولية، هناك قوانين دولية تسمح بالمنظمات الدولية بنقد تصرفات حكومات معينة. وبالتالي، مسألة القلق الزائد من وصول اليمين إلى السلطة في الدول الأوروبية، مُبالَغ فيها.