دعا ريشي سوناك، رئيس الحكومة البريطانية السابق، إلى انتخابات برلمانية جديدة، فلما جرت الانتخابات في الرابع من هذا الشهر، جاءت الرياح على غير ما يشتهي الرجل، وخسر المحافظون الذين حكموا برئاسته ورئاسة غيره 14 عاماً متوالية، وجاء في مكانهم حزب العمال، الذي كان ولا يزال خصمهم السياسي اللدود.
وبالتزامن مع دعوة سوناك، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتخابات جديدة أيضاً، فجاءت الرياح على غير ما يشتهي هو كذلك، ولم يحقق حزب «معاً من أجل الجمهورية» الذي يرأسه ماكرون أغلبية في الجولة الأولى ولا حتى في الثانية.
ولكن القاسم المشترك الأعظم بين الانتخابات في البلدين، أن حصيلتها جاءت لصالح الجاليات العربية أو المسلمة فيهما، وبدا الأمر وكأن الأقدار قد أرادت أن تكون الانتخابات في الحالتين إشارة إلى أنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح.
ففي بريطانيا خسر خمسة من مرشحي «العمال» مقاعدهم في خمس دوائر أمام خمسة مرشحين مستقلين، وتبين بعد فوزهم أنهم ممن ينتصرون لقطاع غزة ويرفضون العدوان على الأطفال والنساء والمدنيين في القطاع. وبالطبع، فإن الدوائر الخمس تتركز فيها الجاليات العربية والمسلمة، وربما تكون هذه النتيجة حافزاً في المستقبل على أن يكون لهذه الجاليات صوت، وأن تكون مؤثرة في الأحداث العامة وذات رأي مسموع فيما يجري ويدور.
كانت النتيجة في الدوائر الخمس إشارة إلى أن الحرب على القطاع حضرت بقوة في القلب من المعركة الانتخابية، وكان حضورها مما سوف يظل يعيد تذكير كير ستارمر، زعيم العمال ورئيس الحكومة البريطانية الجديد، بأن القضية في غزة خصوصاً، وفي فلسطين عموماً، لا يمكن تجاهلها ولا القفز فوقها.
وفي فرنسا جرت الانتخابات التي دعا إليها ماكرون بجولتيها في الأسبوع الأول من هذا الشهر، وقد أثارت قلق الجاليات العربية والإسلامية لأبعد حد، لأن حزب «التجمع الوطني» المعروف بانتمائه لليمين المتطرف، حقق فوزاً لافتاً في الجولة الأولى، وكان تفوقه مخيفاً بقدر ما كان مؤرقاً لكل مهاجر موجود في فرنسا.
فليس سراً أن اليمين المتطرف يتبنى سياسات متشددة للغاية ضد المهاجرين، ويراهم سبباً لمشكلات كثيرة في فرنسا وفي أوروبا كلها، ويتطلع إلى كل مهاجر على أنه مشروع مشكلة في المستقبل، إذا لم يكن يمثل مشكلة في الحاضر!
وما كاد حزب التجمع الوطني ينتشي بفوزه في الجولة الأولى، حتى كانت الجولة الثانية قد فاجأته بما لم يكن يدور لزعيمته ماريان لوبان في خاطر، فجاء ترتيبه ثالثاً بعد أن كان الأول في أول جولة، وتراجع ليتقدم عليه حزب جبهة اليسار وحزب الرئيس ماكرون معاً.
وتنفس المهاجرون الصعداء، وأحسوا أن جبلاً قد انزاح من فوق صدورهم، وهدأوا قليلاً بعد أن كان زحف الحزب في الجولة الأولى قد أصابهم بالفزع.
ولا بد أن المهاجرين الذين نقلت عنهم وكالة رويترز بعد الجولة الأولى أنهم يفكرون في الهجرة من فرنسا، قد جلسوا بعد الجولة الثانية يراجعون أنفسهم ويحسبون الحسبة من جديد.. ولماذا لا يفعلون ذلك وقد أرسلت السماء إليهم خسارة حزب التجمع، وكأنها هدية من حيث لم يكن يتوقع كل واحد فيهم؟
كسب حزب العمال في لندن وعاد للحكم بعد غياب عن الحكم طال 14 سنة، وحاز التجمع الوطني في باريس على أكثر من ثلث أصوات الناخبين في الجولة الأولى، وهذا ما لم يحققه في أي استحقاق انتخابي خاضه من قبل، ولكن الفوز الأهم في الحالتين كان فوز الجاليات العربية والإسلامية في العاصمتين، لأن الحصيلة في الدوائر البريطانية الخمس قد انتصرت لهذه الجاليات، ولأن تراجع حزب التجمع في الجولة الثانية قد جاء وكأنه رد اعتبار لكل مهاجر.
انعقدت بورصة السياسة في عاصمة الضباب وفي عاصمة النور ثم انفضت، فخسر من خسر وكسب من كسب، ولكن طبائع الأمور أبت إلا أن تكون الحقيقة هي التي كسبت أكثر، لأن غزة التي خذلها العالم قد انتصرت لها الدوائر البريطانية الخمس، ولأن التطرف الذي يمثله حزب التجمع كان من الممكن أن يخدع الناس بعض الوقت، ولكنه لم يستطع خداعهم كل الوقت.